التاريخ الموجز لصالح تلخصه دعوته الأخيرة إلى أتباعه "دقوهم". يستخدم الفعل "دق" للتعبير عن القتل في حالة واحدة "دق عنقه"، بمعنى كسره.
اللهجة التي يتحدثها صالح تستخدم الفعل "دق" لتعني به القتل، أو الاغتيال.. بدأ صالح مشروعه السياسي من خلال أشهر عملية اغتيال في تاريخ اليمن: قتل الرئيس اليمني إبراهيم الحمدي. ثمة ما يشبه الإجماع حول دور صالح في تلك العملية.
لم يمض أقل من نصف عام حتى كان صالح يشترك، بطريقة ما، في قتل أكثر من عشرين شيخاً من مشائخ محافظة تعز في طريقهم للقاء الضابط المنشق عبد الله عبد العالم في مدينة التربة.. تلك الحادثة جرت على عادة التاريخ اليمني الحديث: قتلة في واضح النهار، أحداث فائقة الجسارة، وسرديات تتجنب الإشارة إلى الرجل الذي شوهد دخان حول فوهة مسدسه.
في العام ٢٠١١ نعته رفيقه علي محسن الأحمر ب"الجاهل المهووس بسفك الدماء". في البيان المُشار إليه قال محسن إن صالح كان وراء عملية القتل التي طالت مشائخ تعز. في الأيام تلك كان صالح هو الحاكم العسكري للمحافظة. اتخذ قائد المظلات المنشق، عبد العالم، مدينة التربة وضواحيها مقراً له ولقواته قليلة العدد. مستوعباً الخلل الرهيب في ميزان القوة رفض صالح كل محاولة لتأسيس سلام جديد بين الرئيس الغشمي والضباط المتمردين.
أراد خوض عملية عسكرية مضمونة النتائج تقدمه بطلاً على نحو ما.. لم يترك الوقت يمضي فقد قام بعملية حصار واسعة على مدينة التربة، وما حولها من العُزَل، تشبه ما تصنعه قواته راهناً. مدعوماً بالمقاتلات الحربية اجتاح صالح مدينة التربة، وفر عبد العالم ورجاله إلى جنوب اليمن. سقط قتلى كثيرون في تلك العملية، وقيدت برمتها ضد المهزومين.. ربما كان بعض القتلى، من المشائخ، قد سقطوا بالفعل على أيدي رجال عبد العالم، كما في الروايات التي قدمها شهود عيان لصحيفة الشارع في ٢٠١٣.
بالتحديد: الجناح المتطرف الذي كان يقوده الضابطان أحمد محسن ونعمان العُديني. أحرز صالح نصراً سريعاً، وحاسماً، في تلك المعركة. قدم نفسه، ختاماً لذلك النصر، بوصفه الرجل الذي قهر الغول قاتل المشائخ. ثمة من يعتقد أن المشائخ الذين لقوا حتفهم في تلك الأحداث كانوا جزءاً كبيراً من الذين حضروا مؤتمر الروضة، ١٩٧٥، وأعلنوا مساندتهم للرئيس الحمدي.
يعرف صالح تعز جيداً، يفهم خارطتها الديموغرافية وشبكة القوى الأفقية فيها. وهو يعرف أن الوحدات العسكرية التي دافعت عن صنعاء أثناء حصار السبعين، ١٩٦٨، كان أساسها عسكريون من محافظتي تعز وإب. توجد روايات متماسكة تتحدث عن التزام باقي الوحدات العسكرية ثكناتها، أثناء حصار السبعين، بطريقة شبيهة لما فعله الجيش اليمني أثناء اقتحام الحوثيين لصنعاء في ٢١ سبتمبر ٢٠١٤.
تمتلك الذاكرة الوطنية متحفاً كبيراً لجرائم صالح الفردية والجماعية. فهو الذي أحرق البيضاء، عبر ثلاثة ألوية عسكرية وحشود من الميليشيا، بالطريقة التي أحرق بها الضالع عبر أحد أخطر جنرالاته "ضبعان"، وأكثر معسكراته قوة، اللواء ٣٣
"دقوهم بمختلف الأسلحة" كان هو شعار صالح على مدى أيام حكمه. "هُم" عند صالح يصعب تعريفها، ولا يريد ذلك. فهو يحارب: المخربين، الشيوعيين، الإخوان المسلمين، الانفصاليين، الإرهابيين، الانقلابيين، الكهنوتيين، المرتزقة، العملاء، وآخرين. دائماً هناك "هُم" واسعة، وكثيرون، وهو يجالد في المعركة ويطلب عوناً من الجماهير الشرفاء.. في لقائه الأخير برجاله من صنعاء، الأسبوع الماضي، طالب مؤيديه الحاضرين بمزيد من الاندفاع للقتال في تعز. قال بلغة حازمة: دقوهم بمختلف الأسلحة، ثم أثنى على القناصة.
تمتلئ ذاكرة الناس في تعز بقصص مروعة عن جرائم قناصة صالح، أولئك الذين وصفهم في لقائه الأخير ب"الرجال"، وراح يقلد بيديه الطريقة التي ينفذون بها عمليات القتل. وكان مشائخ صنعاء يصفقون لتلك الحركة تحديداً بحرية وسعادة. صفق ضيوف صالح أكثر من مرة لحديثه عن رجال لا يفعلون، منذ ٨٠٠ يوم، شيئاً سوى اغتيال الناس في شوارع المدينة.
يتخيل صالح عمل القناصة أكثر من غيره. يمنحونه سعادة من نوع خاص. ليس ذلك النوع من السعادة الذي يجنيه امرؤ ما وهو يرى تهديداً يزول. منظر الدم، عدد القتلى، طبيعة القتل، نوع الجريمة، ألم الضحية وهو يحاول العودة إلى الحياة. تلك، يُروى عنه، تمنحه سعادته النادرة.. في ٢٠١٠ استطاع صالح إقناع عبد الرقيب القرشي بالعودة من منفاه. كان القرشي أحد الضباط الذين تركوا اليمن بعد اقتحام قوات صالح لمدينة التربة في مايو ١٩٧٧. بعد ثلاثة أسابيع من عودته إلى أرضه، يونيو ٢٠١٠، يتلقى القرشي طلقة في رأسه، في العاصمة.
تمر ستة أسابيع، بالتمام، بين العودة والوفاة. يمتلك القرشي، وهو صهر لعبد العالم، سردية متكاملة عن تلك الأيام. ماتت قصته معه، وبقي صالح مع القناصة، يقلد حركاتهم في مؤتمراته الجماهيرية، مثنياً عليهم، فهم "الرجال" الذين يعالجون يهبونه السعادة.. صمت عبد العالم حتى أكتوبر من العام ٢٠١١. في الشهر ذاك أصدر بياناً بليغاً وصف من خلاله صالحاً برجل الخيانة والغدر، الرجل الذي ـ طبقاً لبيان عبد العالم ـ أدمن قتل الرسل والوساطات. ذكر عبد العالم بثلاثة أفواج من الرسل قال إن صالح قتلها أو حاول قتلها: لجنة المشائخ التي قتلت في مايو ١٩٧٧، وفد الوساطة الذي انهالت عليه الصواريخ وهو في بيت صادق الأحمر، ومحاولة اغتيال علي محسن الأحمر من داخل لجنة وساطة ذهبت إليه أثناء ثورة فبراير ٢٠١١.
صالح ليس أكثر من قناص، هو نفسه. تمتلك الذاكرة الوطنية متحفاً كبيراً لجرائمه الفردية والجماعية. فهو الذي أحرق البيضاء، عبر ثلاثة ألوية عسكرية وحشود من الميليشيا، بالطريقة التي أحرق بها الضالع عبر أحد أخطر جنرالاته "ضبعان"، وأكثر معسكراته قوة، اللواء ٣٣. لكنه أيضاً صاحب موسوعة عملاقة من الجرائم الفردية.. "دقوه" كانت هي كلمة صالح لإنهاء جدل ما، أو معالجة قلق بعينه. أمر بإحراق صعدة عندما اعتقد أنها تشكل قلقاً على استقرار مصالحه، ومصالح رابطته. مع الأيام سيدرك صالح أنه غير قادر، لوحده، على تدبر أمر المخاطر الوجودية، فقام بتسوية صراعه مع سيد صعدة. في خطابه الأخير طالب بقتل كل من ينتمي إلى حزب الإصلاح، وقبل عشرين عاماً خاض الإصلاحيون إلى صفه أكثر حروبه الوجودية خطورة.
أما مشائخ تعز الذين دخلوا صنعاء، ١٩٧٨، ليضعوا وزن محافظتهم كلها في حقيبة صالح، في صراعه لأجل الرئاسة، فقد منح الأخير أحفادهم ومدينتهم خراباً شاملاً. لا يوجد لدى صالح أصدقاء دائمون، لكنه واسع الأعداء.
لمع نجمه، لأول مرة، مع حصاره لقرى الحجرية في تعز، ١٩٧٧، ثم اقتحامه لها. وها هو بعد أربعين عاماً من تلك الأيام يختم حياته بحصاره للقرى ذاتها وتفجير منازل ساكنيها. ما بين الحصارين كان قد وزع الجوع والجريمة في ربوع اليمن كلها.. لقد كان الرجل الذي جعل من اليمن صعدة كبيرة، وجعل من صعدة كهفاً. وهو يدفع جيشه للهجوم على صعدة كان يصيح "دقوهم". وفي منتصف الحرب السادسة قال، مبتهجاً بتدخل القوات الجوية السعودية لصالحه: الآن بدأت الحرب، كل ما سبق كان بروفه. وذهب، مع انتهاء الحرب، إلى الكلية الحربية في صنعاء ليثني على جيشه، قائلاً: لا يهم مقتل الأفراد، الأفراد سيُعوضون، الأهم هو اكتساب الخبرة في القتال.
كان يربي قناصين وعصابات، لا جيوشاً. وكان هو، على الدوام، أحد أمهر القناصين الذين إن أفلتوا من العدالة فلن يخدعوا التاريخ.
نقلا عن مدونة الكاتب في مدونات الجزيرة