مازالت القناعة راسخة لدى الكثيرين في أن المسألة اليمنية غير قابلة للحل السياسي الذي لن يحيد في جوهره عن كامل المرجعيات التي كانت سبباً للتوافق اليماني الحكيم في عام ٢٠١١م، الذي توج بالمبادرة الخليجية، واستتبعه البرنامج الشامل لتطبيق مرئيات المبادرة، وبتوافق داخلي شامل، ومتابعة إجرائية حثيثة لدول مجلس التعاون الخليجي، ورعاية ضافية لعشر دول في العالم، بمن فيها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا.
كانت الفرصة يومها سانحة للتسوية، بقدر الآمال الكبيرة التي جعلت الجميع يرون في موديل الربيع اليمني أفضل وأروع نموذج للانتقال السلمي، غير أن صالح والحوثيين باشروا سلوكاً مجافياً لما ارتضوه جهاراً نهاراً، ووقعوا عليه أمام رؤوس الأشهاد، وكانت الذرائع المخاتلة سمة أساسية في سلوكهم المجافي للمنطق والعقل والسوية، حتى وصل بهم الأمر إلى القبول بدور (حصان طروادة) في معادلة إقليمية بعيدة كل البعد عن مصالح اليمن وتاريخها الخاص، بل وجغرافيتها الكيانية ذات التواشج التام مع دول الجزيرة العربية.
لا أود هنا استعادة المسلسل المعروف لدى الكثيرين، واجترار ما كان من أمر التحالف الحوثي الصالحي المنكسر بقوة دفع الحقيقة، وتجلياتها الماثلة على الأرض وفي السماء، ولكن ما أود التركيز عليه في هذه اللحظة الفارقة من المحنة المستحكمة في اليمن أن صالح والحوثي ليسا مؤهلين لشجاعة الاختيار العاقل، ولا التداعي المنطقي مع الحل السياسي. ذلك أن قبولهما بالحل السياسي سيعني تنازلاً حراً وشجاعاً من مشروع الإصلاح في اليمن، ولهذا السبب بالذات سيمعنان في المناورات الميكيافيلية المكشوفة، والمحاولات العقيمة لإيقاف عجلة التاريخ، والسعي ما أمكنهما لتخريب أية تسوية منطقية في معادلة تجلت أبعادها وعرفت مصائرها المحتومة.
الدولة الاتحادية متعددة الأقاليم هو الخيار الحتمي الذي لا تستوعبه جماعة صالح المنسحبة من التاريخ والمقيمة في مربع بؤسها المركزي، والدولة الاتحادية الباحثة عن الهوية المقرونة بالمواطنة العصرية أمر لا يستوعبه الحوثيون الخارجون من رحم المراتبية السلالية الخاوية، والاستيهام الإيديولوجي بإمكانية استحضار نموذج المرجعيات الدينية المغالبة لضرورات الأرض وحكمة السماء.
ولأن الخيار السياسي ينحسر في أذهان الحوثيين وحليفهم التابع صالح، فإن السجال الميداني سيكون سيد الموقف، فهؤلاء لا يعرفون سوى لعلعة الرصاص ولغة القوة المجردة، والشاهد الأميز على ما نذهب إليه أنهم يواصلون قتل المواطنين في تعز كما لو أنه واجب يومي مقدس، ويباشرون الاغتيالات المجرمة في عدن مستهدفين الجميع، بمن فيهم شرطة المرور وقوات حفظ النظام العام، ويمعنون في تخريب أي منجز عن الأرض من خلال العبوات الناسفة التي ينشرونها هنا وهناك.
بهذه الأفعال الأثيمة المستمرة منذ دهر البلايا التي صنعها نظام صالح يكشفون عن مدى كراهيتهم للحياة، إن لم تكن حكراً لهم، ولهم فقط، بل ويعبرون عن ازدراء ممعن للنظام والقانون والدولة، كأن الدولة والنظام مفصّلان على مقاساتهم.. هم بالذات. انهم كانوا وما زالوا يصادرون حق اليمانيين في الحياة الكريمة، وحتى الأحلام النبيلة.
الحوثيون ومن يتحالف معهم لم يعودوا مؤهلين لما يتجاوز حد الكر والفر، ولا تبدو في الأفق قابليتهم الواضحة لتسوية يرتضون فيها دور الشريك القابل باللعبة السياسية التشاركية التي يراها العقلاء مخرجاً مشرفاً للجميع، والأهم من هذا وذاك أن قراراتهم لم تعد بيدهم، بل بسدنة تصدير نموذج ولاية الفقيه في طهران.
لقد بلغ التقطير البائس مداه، وها هو صالح يترنح في وحدته القاسية بعد أن تخلى عنه أقرب الأقربين، ممن حاولوا تسييج نظامه، وعملوا بصدق على ترميم بلاياه، وها هو الحوثي الفتي يغرق في لزوجة مدرسته المتعصبة، ولا يجد له ملاذاً سوى كهوف مران المعتمة.
أمام هذه الحقائق الساطعة.. هل يمكننا افتراض حل سياسي يكون فيه فرقاء الشر شركاء من أجل الخير؟ وهل يمكن لجموع اليمانيين المكروبين بالموت والقتل والدمار أن يتسامحوا هذه المرة مع جلاديهم وقتلتهم الأشاوس؟