وعُدت يا فبراير المجيد بألقٍ جديد، وطلة بهية، وذكريات عابقة أعادت لنا كيمنيين ذكرى يوم من أيام اليمن الخالدة، عُدت يا فبراير بحلة مفعمة بالصمود والشموخ والكبرياء، وأنت الذي فتقت الألسن وصنعت التحولات وأشعلت مصابيح الضياء والنور في طريق الخلاص من نظام مستبد غشوم تلبّس ثوب الجمهورية وجثم على صدر اليمن ثلاثة عقود ونيف، فكان أسوأ عهد جمهوري مر على الوطن اليمني بشطريه الشمالي والجنوبي.
كانت ثورة الـــــ 11 فبراير ضرورة وطنية لا جدال فيها، بعد حكم متخلف سلطوي أسري دام ثلاثة عقود، وضرورتها تكمن في الحالة التي وصلت اليها اليمن من الإنغلاق السياسي والانهيار الاقتصادي والتفكك المجتمعي، وهذا ما حدا بشباب اليمن المشبع وطنية وانتماءً وطنياً للخروج إلى ساحات الحرية وميادين الكرامة والتغيير رفضا لكل العابثين بالوطن حاضره ومستقبله، وحفاظا على مستقبل الأجيال القادمة لكي تعيش في ظل دولة يمنية مدنية تكفل لهم الحقوق وتضمن لهم العدالة في توزيع الثروة والكفاءة في أداء المهام الوطنية.
جميعنا يعرف أن اليمن قبل ثورة فبراير وصلت إلى طريق مسدود في مجال الحقوق والحريات وغاب عنها التداول السلمي للسلطة لأكثر من ثلاثين عاما، ظلت خلالها السلطة الحاكمة بيد عصابة عائلية أمنية مخابراتية عمدت على تحويل اليمن إلى مربع أمني بوليسي خاص بها، فكانت النتيجة قمعا سياسيا تسبب في خنق الحريات العامة وحوّل العملية الديموقراطية التي كان يتدثر بها النظام العائلي إلى مجرد ديكور و"استاند أب" يوهم به ومن خلاله العالم الخارجي أنه نظام يقوم على أسس فريدة من الديموقراطية في المنطقة العربية الكافلة للحقوق والضامنة للحريات.
هذا الإنغلاق السياسي والقبضة العائلية البوليسية على الحياة السياسية في اليمن كان سبباً وضرورة للتمرد الوطني الثوري الذي تصدرته كل فئات وشرائح المجتمع اليمني وفي المقدمة منها شريحة الطلاب الذين انبروا من صروحهم العلمية في الجامعات والكليات والمؤسسات التعليمية.
وإلى جانب الإنغلاق السياسي فإن من الضرورات التي أوجبت إشعال فتيل هذه الثورة المباركة كان التدهور الاقتصادي الذي جعل أكثر من نصف الشعب اليمني يعيش تحت خط الفقر نتيجة سياسات النظام العائلي الاقتصادية التي أدت إلى اندثار الطبقة الوسطي في المجتمع وتحوله إلى طبقتين، طبقة تعيش في نعيم مقيم مقتصرة على النظام وتنابلته، وأخرى وهي الغالبية الساحقة من المجتمع تعيش تحت خط الفقر يكسوها العوز ويسكنها الحرمان، في ذات الوقت كان النظام الأسري وعتاولته يتناوبون على نهب مقدرات وأقوات الشعب واكتنازها في البنوك والمصارف الخارجية. هذا الحال البائس الذي تكبده الشعب اليمني كان وقودا لخروجه يوم الحادي عشر من فبراير البهي رفضا لسرّاق لقمة عيشهم الناهبين أقوات الكادحين المُهدرين مقدرات الوطن وثرواته.
وفوق ذلك، لم يكتفِ هذا النظام القمعي بسلب حقوق الشعب اليمني وحرياته ولقمة عيشه، بل ذهب بعيداً ليوغل أكثر في جراح الشعب حيث انتهج في حكمه الجائر الغشوم على سياسة الحكم بالأزمات وهذا النهج البهائمي أثر تأثيراً بالغاً في حياة المجتمع اليمني وأحال السلم المجتمعي إلى مجرد سراب بقيعة ومنية بعيدة المنال.
سياسة الحكم بالأزمات كانت هي كلمة السر في بقاء هذا النظام العائلي حاكما طيلة ثلاثة عقود إذ كان يتفنن في ضرب القبائل ببعضها البعض وإذكاء الصراعات القبلية والثأرات المجتمعية بينها، وفي أحايين كثيرة كان يتبنى دعم بعض القبائل لمواجهة بعض فصائل الجيش بهدف التأثير على خصومه الذين يتوجس منهم في المؤسسة العسكرية، وأكثر من ذلك كان يدعم بعض قطاع الطرق في قبائل طوق صنعاء لتعمل على اختطاف بعض السياح والزائرين لليمن بهدف الابتزاز الدولي.
ضرب السلم المجتمعي وتشويه صورة اليمن وإذكاء الثأرات البينية في المجتمع كانت من الأهداف السامية التي سعى شباب ثورة فبراير إلى فرملتها وخلع النظام الذي حكم بها ودام واستمر بفضلها.
كل هذه العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية كانت سببا وضرورة قصوى لانطلاق شرارة ثورة فبراير، ثورة الأجيال, وما من أحد على الأرض اليمانية وبخاصة الغالبية المسحوقة فيها يمكنه التقليل من هذه الثورة أو حتى إعابتها، باستثناء أولئك الذين كان نظام المخلوع يغدق عليهم من نِعَمَه وفتاته وهم قلّة لا يؤبه لهم.
ستظل ثورة فبراير الألق المستمر، والثورة الملهمة على الدوام، فهي الثورة التي تجمعت فيها أيدي سبأ بعدما تفرقت، وشارك فيها اليمني من ميناء المخا وحتى شاطئ المهرة، ستبقى ثورة فبراير وهاجة مضيئة وهي التي انطلقت بسلمية خالصة من الجامعات والكليات والمدارس، وألتحم فيها الفلاح بأستاذ الجامعة والعاطل بالعامل ليشكلوا جميعهم لوحة ثورية أنيقة عنوانها : فرشنا الدروب بأرواحنا، وسرنا على هديها للأمام كما قال الشاعر عثمان أبو ماهر رحمه الله.