في أسبوعه الأول في البيت الأبيض كان ترمب وفياً لذاته، متسقاً مع خطابه. لم تكن مهرجاناته الانتخابية ضرباً من حيل البوكر، ولا خداع المضاربين. يتحدث عن عالم لا يعرف عنه شيئاً، ويقود أمة لطالما تخيلها على هيئة واحد من برامج تلفزيون الواقع. وفي بضعة ساعات يجري عملية تحميل واسعة لكل العالم الفانتازي الذي يعيش في رأسه، أو السكند لاند خاصته، ويلحمه بالواقع. إنه نوع كارثي من الواقعية الفانتازية لا يمكن تخمين مآلاته.
يريد بناء سور بين دولتين بلغ حجم تبادلهما التجاري في ٢٠١٥ أكثر من نصف تريليون دولار. يلغي اتفاقات اقتصادية مستقرة مع أغنى قارة في العالم، ويوجه إهانات طفولية إلى دولة بحجم كالصين، ثم يضع ثاني أكبر أمة من حيث الدين، العالم المسلم، في دائرة الاشتباه. ينكأ كبرياء الشعوب، ويربك النظام العالمي في آن.
من غير المنطقي التقليل من خطورة "ذلك الرجل" على العالم. فهو غارق في الفانتازيا، يعيش كمهرج في أوبرا هزلية، لكنه منفلت إلى الحدود القصوى. يحول القضايا الأكثر خطورة، كالإرهاب والمناخ والتنوع الديني، إلى مادة تويترية. لقد امتلك قدراً هائلاً من القوة، ويعتقد أن عليه أن يستخدمها دفعة واحدة وفي كل الاتجاهات. يؤمن بقدرة بلاده غير المحدودة على فعل ما تشاء في العالم، ويرى شعوب العالم ودوله مجرد محميات قلقة وعرضة للنفوق، تحميها القدرة الأميركية. هدد بترك دول الناتو تواجه مصيرها إذا لم تدفع مالاً للحلف، وندم على خسارة أميركا لنفط العراق والكويت، هاجم صانعي السيارات الألمان، ولاعبي الكرة، والممثلين. ركض الثور بحوافره في الهواء، أغمض عينيه وأصاب كل شيء.
قبل أن يتسلم السلطة رسمياً كان قد دفع المسؤولين الصينين إلى التوتر، إذ تساءل عن ما إذا كانت الصين قد أخذت الإذن من بلاده قبل أن تذهب إلى تشكيل جيشها الكبير. بدا، على حد تعبير ياشنغ هوانغ، الأستاذ في معهد ماساتشوسيتس، كثور كبير في متجر اسمه الصين. واصل الثور حركته غير المنتظمة، وشرع في تخريب النظام العالمي، الاقتصادي والسياسي، بسرعة مخيفة. رفعه محرر "بروجيكت سيندكيت" من درجة الثور إلى الدرجة القصوى: إله المذبحة.
لم يكن هتلر سوى مهرج ديماغوغي عندما قالت نيويورك تايمز، ١٩٢٢: لا تأخذوا كلامه على محمل الجد، ستدفعه الحقائق إلى تغيير سلوكه فور وصوله للسلطة. مهرج الأوبرا الهزلية، أو البعبع المقيم في رؤوس خصومه، بتعبير الروائي الانجليزي ويلز، تسبب في موت أكثر من ٥٠ مليوناً.
بين أميركا الضائعة، كما قدمها ترمب في حملته الانتخابية، وأميركا القوية التي يتخيلها ضربة واحدة على الطاولة. اشتكى، علانية، من أن المكسيك لا تبدي قدراً كبيراً من الاحترام لبلده. كما لو أنه يريد أن يرى الشعوب، والساسة، يرتجفون لمجرد ذكر اسم بلده سألتني جارة ألمانية، في منتصف العمر، ما إذا كنت أوافقها على فكرتها. قالت إنها تهجس بالسفر إلى أميركا والالتحاق بالمظاهرات المناهضة لترمب هناك "لا بد من إيقافه، من الضغط على فرامله، وإلا فلا فائدة". لا يزال الألمان المعاصرون يحتفظون في رؤوسهم بالقصة الكاملة. فهي تروى عليهم مراراً.
سيبعد ترمب كل الموظفين الكبار الذين سيقولون له لا، أو سيترددون. ثم سيستبعد أولئك الذين يسدون إليه النصائح، أو يقولون "لكن". ثم سيأتي بآخرين مستعدين لخدمته حتى يشعر بالرضا. فلا شيء أسوأ، في عالم اليوم، من فقدان وظيفة جيدة. موظفو ترمب الجيدون سيعملون على تشكيل فرق عمل خاصة بهم بمواصفات تتسق مع المشروع الترمبي. سيحرص على موظف رفيع على خدمة مولاه حتى لا يخسر وظيفته فالبدلاء كثيرون في عالم النيوليبرالية المترامي الأبعاد. ستتفرع شجرة الموظفين حتى الأطراف. في عالم إدارة اليوم ستوافق كل ورقة في الأطراف، في قياساتها ومواصفاتها، أحلام الرجل المركزي، الجذر الأكبر، إله المذبحة. لن يمضي وقت طويل حتى تكون أميركا قد صارت ترمبية، مهرجة ومخيفة ومنفلتة، وتجر العربة إلى الحافة.
قال أمازون قبل أيام إنه باع كل النسخ من رواية ١٩٨٤، لجورج أورويل. "لا تثق بعينيك ولا بأذنيك، لا تأخذ المعلومات سوى من الحكومة"، هكذا تقول وزارة الحقيقة الأورولية، أو الدولة الشاملة كما تخيلها أورويل. وقف الناطق باسم البيت الأبيض في مؤتمر صحفي وراح يقول كلاماً لا علاقة له بالحقائق. كان واثقاً، كل الثقة، من دقة معلوماته غير الحقيقية وهو يتحدث عن الحشود التي خرجت يوم تنصيب ترمب. عندما كشفت الصورة، والقياسات الفيزيائية، خداع موظف البيت الأبيض الجديد خرجت واحدة من مستشاري ترمب لتدافع عن زميلها قائلة "لم يكن يكذب، كان فقط ينقل لكم حقائق بديلة". تلك كانت اللحظة التي تذكر فيها الكل العالم جورج أورويل، ووزارة الحقيقة.
نصحته "نيويورك ماغازين" بالابتعاد عن إهانة المسلمين فذلك، بحسب الصحيفة، سلوك إمبريالي قذر من شأنه أن يمنح داعش قبلة الحياة. كان سلفه بوش الإبن، بحسب الصحيفة، أكثر ذكاءً. فهو يخوض حروباً في بلدان المسلمين ويدافع عن حقهم في العيش، ويدين العنف ضدهم. لا يحفل ترمب بالنصائح على ذلك الشكل، فقد سخر من ديفيد موير، مقدم البرامج في ABC قائلاً إن العالم مليء بالغضب والفوضى وما عساه غضب المسلمين أن يضيف.
ترمب قادم من تلفزيون الواقع، وهو منتج كامل للخطاب الشعبوي الفانتازي. بلا خبرة مع السياسة عاش الرجل داخل دائرة من الضلالات، وشكل مزاجه وحساسيته داخل مدارات موازية للمجتمع الواقعي. لا يؤمن بوجود المسائل المركبة، ويكثر من مشاهدة التلفزيون. يبدو في كل خطاباته كلي القدرة، غير محتاج لأي قدر من التنوير، بما في ذلك ما يخص مسائل فيزيائية غاية في التعقيد كالمناخ والعتامة العالمية وظاهرة الغرين هاوين والاحتباس الحراري. يقدم نفسه، فعلاً، كإله لناخبيه، قادرٍ على إيصالهم إلى اليابسة التي يبحثون عنها. ما عليهم سوى أن يغمضوا أعينهم. أما هو فتفصله عن أميركا العظيمة مجدداً، التي يحلم بها، أشياء قليلة سينجزها في بضعة أسابيع: سلسلة من القرارات الإدارية، ثم سلسلة أخرى، ثم أخرى.
بين أميركا الضائعة، كما قدمها في حملته الانتخابية، وأميركا القوية التي يتخيلها ضربة واحدة على الطاولة. اشتكى، علانية، من أن المكسيك لا تبدي قدراً كبيراً من الاحترام لبلده. كما لو أنه يريد أن يرى الشعوب، والساسة، يرتجفون لمجرد ذكر اسم بلده. رد المكسيكيون بدعوات شعبية لمقاطعة المنتج الأميركي. هذه المرة، كما يقول دعاة المقاطعة، انتصاراً لكرامة المكسيك. تلك معركة لم يتخيلها ترمب، بالطبع. معركة الكرامة، والمعارك التي عند نفس المدار. ستشتعل معارك مشابهة عند محاولته نقل سفارة بلده إلى القدس، وعندما يجري وراء نواياه الأخرى ويعترض باقي أمم العالم.
ترك أوباما البيت الأبيض عند مستوى بطالة هي أقل من ٥٪، وتلك نسبة تاريخية. أميركا ترمب ستحيط نفسها بالأسوار، لكنها أيضاً ستخوض حرباً خارج حدودها. هذه المرة: ضد المسلمين، الصينين، الأوروبيين، وأمم كثيرة تنتظر دورها. ذلك، فيما يبدو، هو طريق ترمب الذي لا يعرفه ولا يعرف طريقاً آخراً سواه.
كثير من القوة في يد مهرج طالع من أوبرا هزلية هو أمر كارثي. على وجه الخصوص إذا كان ذلك المهرج يريد تحويل كل العالم إلى أوبرا هزلية، على طريقته.
*مدونات الجزيرة