أزعم أن النماذج التي طورها Marc Sageman، المتخصص في علم النفس والمنقطع لدراسة ظواهر العنف، تقدم مقاربة ذكية لفهم الظاهر الإرهابية..
فقد جمع الرجل حول ٩٠٠٠ وثيقة حول الجماعات الإرهابية، ودرس "٣٤" حالة عنف جماعي متوحش. توصلت نماذج Sageman إلى استنتاج بسيط يقول إن القهر السياسي/العنف السياسي كان مسؤولاً بشكل أساسي في ٨٠٪ من الحالات عن نشوء ظواهر العنف "الديني" المسلح.
النصوص لوحدها لا تصنع ظاهرة عنفية، لكنها تبقيها محتملة. العنف السياسي المفرط يدفع فئة من الناس إلى اكتشاف نص "بعثت بالسيف، وجعل رزقي تحت ظل رمحي"، إلا إلى ذلك الذي يقول "أنا نبي الرحمة".
في حالات العنف المستدام، والمغلق، تعثر فئة من الناس على نص "يا أهل قريش، جئناكم بالذبح"، وهو نص يقع إلى جوار ذلك الذي يقول "يا أهل قريش، اذهبوا فأنتم الطلقاء"..
في ظروف تاريخية معينة تشتعل النصوص العنيفة، وتفجّر الأجواء. كأن النصوص لوحدها ليست قادرة على إنجاز الظاهرة، فهي بحاجة إلى درجة تسخين عالية. عندما سئل يحيى الحوثي في بون عن سبب امتناع علي ب. أ. طالب عن الثورة على الخليفة الأول والثاني قال الحوثي "كانت دولة قوية وحازمة، ومن الصعب الثورة عليها". عندما ارتخت الدولة عثر الحوثي على كل النصوص التي تبيح له القتل والتخريب. ذلك أيضاً ما فعلته النسخة الأخرى من العنف، مثل داعش.
نشرت الإندبندنت قبل شهر ملخصاً لدراسة علمية مثيرة. توصل الباحث، وهو متخصص في تقنيات المعلومات، إلى هذه النتيجة: فقد عرض نصوص التوراة والإنجيل والقرآن على معالج إليكتروني، فوجد أن نسبة "العنف" في القرآن هي الأقل بين النصوص الثلاثة. فبينما لم تتجاوز مفردات/نصوص العنف في القرآن 1.4%، فإن التوراة تجاوزت الـ 5% ..
في ظروف معينة، سياسية أو أمنية، تتجلى الظاهرة الإرهابية مستندة إلى كتاب. في فترة الحرب العربية الإسرائيلية، والحصار العربي الشامل على إسرائيل في العقود الثلاثة التي تلت إعلان إسرائيل، عادت التوارة إلى الواجهة، بكل وحشية، وكانت هي اللغة اليومية في السياسة والإعلام والخطاب الثقافي. يقدم الدكتور شولومو بن عامي في كتابه the scars of war, the wounds of peace عرضاً مذهلاً للغة التوراة التي اخترقت السياسة والثقافة والتعليم العسكري في الفترة تلك.
الواقع إنه لا يمكن عزل ظواهر العنف الدينية عن "الضغوط "السياسية. هذا ما جعل الإسلام التونسي، حالياً، ملتبساً، ومربكاً. فتونس أنجزت ثورة الياسمين، وقدم الإسلام السياسي التونسي صورة مبهرة لإمكانية انخراط السياسي الإسلامي مع العالم المعاصر. لكن تونس، أيضاً، هي التي تمنى أبو مصعب الزرقاوي أن تكون مجاورة للعراق، كما في واحد من نصوصه الشهيرة. فمن عزلة صغيرة في تونس تتحدث تقارير دولية عن خروج 8000 شخص، والتحاقهم بحروب سوريا والعراق. ووفقاً لاعترافات بعض الفارين من داعش فإن الإرهابيين التوانسة كانوا هم الأكثر وحشية على الإطلاق، و"كأن الرحمة لم تعرف إلى قلوبهم طريقاً" كما قال. الضغط السياسي التونسي، أو إرهاب الدولة، لم يشمل مواجهة الإسلام السياسي بل المظهرية الدينية الإسلامية إجمالاً. وهو ما يفسر، ربما، كون النسخة التونسية من العنف الإسلامي هي الأكثر سوءاً على المستوى العربي. يقول فارون من داعش، وفقاً لمعلومات نشرت قبل فترة قصيرة، إن "المجاهدين" القادمين من الجزيرة العربية كانوا أكثر شفقة من نظرائهم التوانسة!
الضغط السياسي، إو إرهاب الدولة، في التونس، دفع جماعة من الناس ـ لديها استعداد نفسي، ابتداءاً ـ إلى تطوير صورة من الإسلام ذات طبيعة وحشية، كمكافئ موضوعي للظهير السياسي والأمني.
وهو ما حدث لإخوان مصر، فقد انفصلت جماعة كبيرة، أو جماعات، عن الخط العام وسلكت طريقاً وحشياً، كما فعل سيد قطب. يذهب النموذج الذي طوره Sageman إلى القول إن الإرهاب الإسلامي يجد في سيد قطب وسائله الفكرية لا في الوهابية السعودية. وتبدو تلك مقاربة مثيرة للانتباه. فالسلفية الوهابية اعتبرت المجتمع جاهلياً، بالمعنى العقائدي، كونه ـ كما لاحظت ـ يخلط إيمانه بشرك. اقترحت السلفية الوهابية سبيلاً لإصلاح المجتمع: عبر التعليم الديني العقائدي الكثيف، والارتباط بمؤسسات الدولة. نأت السلفية عن مواجهة المجتمع أو الدولة أمنياً، بصرف النظر عن موقفها العقائدي، قائلة إن كل ذلك لن يخلق سوى فتنة شعواء.
وجدت السلفية الوهابية في علماء السلف، مثل ابن حنبل وابن المسيب ، زوادتها. فهما يريان في حفظ الحدود وحماية الثغور، أي مهام الدولة، فضيلة تفوق فساد جهاز الدولة. غير أن قطب عثر على ضالته لدى ابن تيمية، وإن لم يرد ابن تيمية كثيراً في كتابات قطب. فقد "أوجب" ابن تيمية محاربة التتار بعد إسلامهم، مستندا إلى فكرة أن تشريعهم "شركي". ولد ابن تيمية بعد سقوط بغداد في قبضة التتار بحوالي خمس سنوات. وعندما صار فقيهاً كان التتار قد أصبحوا مسلمين، إلا أن ذلك لم يقنع الرجل، فأوجب قتالهم، كما يقول في أكثر من موضع في "مجموع الفتاوى". السلفية الوهابية مرّت على مواقف ابن تيمية من "الحكومات"، كانها لم ترَ شيئاً، بخلاف النسخة الجهادية من السلفية. فهي تستند كلياً إلى فتاوى ابن تيمية، وتذهب إلى ضرورة قتال الحكومات كونها كافرة، على غرار موقف ابن تيمية من التتار، فقد مات الرجل في واحد من سجون التتار. يذهب شكري وفرج وقطب هذا المذهب، ويبلغون حد السخرية من فكرة تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني. لدى محمد عبدالسلام فرج، أنجب تلامذة قطب، تعتبر الدعوة إلى تحرير فلسطين خديعة للجماعة الإسلامية، فتحرير "الأراضي المقدسة" في ظل الدولة العربية الكافرة/ المرتدة لن يؤدي سوى إلى مزيد من تقوية شوكة تلك الدولة. فهي عملية ستخلق دولة كافرة جديدة على الطريقة العربية!
حاول الإخوان تدارك ما فعله قطب فأنتجوا خطاباً جديداً، مشوشاً، لكنه أقل عنفاً من الخطاب القطبي. قاد في النهاية إلى حقبة الرخاء الساداتي، وعودتهم إلى الحياة السياسية مرة أخرى. بقي قطب لدى الإخوان الاحتياطي الذهني، والرجل الذي لا يُقرأ سوى في السجون، وبقيت الحامية الإخوانية جاهزة لفتح كتبه متى ما تلبدت أجواء السياسة، كما حدث مؤخراً مع جماعة محمد كمال بعد انقلاب السيسي على الحكومة المنتخبة.
حاول حسن الهضيبي، مرشد الإخوان، طمر ما كتبه سيد قطب، ولكنه لم ينجح كلياً. أو ربما لم يشأ أن ينجح. فقد بقي الإخوان ملتزمين حتى الآن بالطبعات الأخيرة من كتاب "الظلال" لقطب، وفيها التعديلات الجوهرية التي أحدثها قطب، والتي سيفردها فيما بعد في كتاب مستقل أسماه "معالم على/ في الطريق". تلك التعديلات التي تقول، في جملة واحدة دائرية: لا بد من إخضاع كل العالم لرؤيتنا.
داخل الوجداني الإخواني بقيت دالتا الجهاد والجاهلية حاضرتين، رغم انخراط الجماعة في السياسة والمجتمع. الواقع إن مقارنة رسائل حسن البنا بمؤلفات قطب تكشف حقيقة سهلة وهي أن الرجلين مختلفان في النوع لا في الدرجة.
النصوص لوحدها، كما في المسيحية واليهودية، لا تكفي لإنتاج الظاهرة الإرهابية. غير أن ما هو من كل ذلك هو استخراج تلك النصوص، علانية، ورميها في النهر.. على أن يكون النهر جارياً.
*من حائط الكاتب على فيس بك