بعد وفاة النبي محمد انقلبت الجزيرة العربية على دولة العرب الأولى. اتجهت القبائل المسلحة إلى المدينة، مستغلة خروج الجيش العربي لمواجهة الروم، وحاصرت العاصمة. خاض الخليفة أبو بكر معركة بطولية، بالاستعانة بمن بقي معه من الصحابة. كان علي أبي طالب القائدَ الميداني، وقد أثبت في معركة الدفاع عن العاصمة جسارة عسكرية وذكاء. استطاعت الدولة الناشئة امتصاص الصدمة الأولى، ثم بادرت إلى خوض معركة شاملة في الجزيرة العربية لاستعادة السيادة، ولتأمين حدودها الواسعة. فقد تأكد للحاكم، آنئذٍ، أنه لا يمكن للعرب أن يخوضوا مواجهة مصيرية مع أكبر إمبراطوريتين في ذلك الوقت إلا بعد تأمين الجزيرة العربية من الداخل.
يعود ابن تيمية، في الفتاوى، إلى تلك المعركة ويذهب بعيداً إلى الاعتقاد أنها حدثت، فقط، دفاعاً عن فريضة الزكاة. ستبني الحركات الإسلامية العنيفة، في كل العصور، على الفكرة تلك، وستشتعل حروب أهلية داخل المجتمع المسلم / العربي دفاعاً عن الفرائض. سيذهب محمد فرج في "الفريضة الغائبة"، وفرج هو مؤسس واحدة من أكثر جماعات القرن الماضي عنفاً، حد القول بوجوب قتال "العدو القريب". العدو القريب عند فرج هو الدولة العربية العلمانية والمجتمع المسلم الذي لا يخضع بصورة شاملة لشريعة الله. كما فعل ابن تيمية سيلتفت فرج إلى معركة الدولة العربية الأولى مستنتجاً جواز حرق المرتدين، سمل أعينهم، وإلقائهم في البئر. ما من دوافع عسكرية ـ أمنية ولا سياسية لحروب العروب الأولى، عند فرج. فهي حروب كانت تجري دفاعاً عن الفرائض، أولاً، ثم عن الشريعة فيما بعد.
التقى فرج مع سيد قطب في ضرورة أن يفتح المسلمون الطريق للدعوة بالسيف، بالبدء بمباغتة المجتمعات العربية. كان البنا، في رسائله، يقول إن المجتمعات العربية لا تزال مسلمة، مستدلاً بالطقوسية الدينية التي تهيمن على يوميات المصري الاعتيادي من الاسم حتى الشعيرة. يستلم قطب الفكرة تلك ثم يقلبها رأساً على عقب، مستخلصاً: إن كل ذلك ـ الحالة الإسلامية العامة ـ لا ينفي كون المجتمع المصري مجتمعاً جاهلياً.
في معالم على الطريق شكك قطب في إمكانية أن تحقق الدعوة، وحدها، نجاحاً. لدى قطب فإن مهمة المسلم في هذه الحياة هي جلب الناس إلى شريعة الله، وإرغامهم على ذلك. يشكك قطب في قدرة الكلمات، فالجاهلية لن تسلِم القياد بيسر.
لا بد من تطويعها عبر السيف، يقول. من وقت لآخر يتساءل: ما الجاهلية؟ ثم يجيب نفسه: هي كل مجتمع على وجه الأرض. يرفض قطب فكرة وجود مجتمع خير في العالم، كلهم جاهليون، ولا بد من اختراع طريق لإعادتهم إلى الجادة القويمة.
في عمله الأخير، معالم على الطريق، ينادي قطب بإخضاع كل مجتمعات الأرض لدين الله، بكل الوسائل. في التوسعات النظرية التي قدمها فرج فإن مهاجمة الدولة العربية، ممتلكاتها وجيوشها ومنشآتها، هي أولوية قصوى لدى الموحدين. في هامش تنظيراته ينادي بتجنيب الأطفال والعجزة الضرر.
يتفق الرجلان، فرج وقطب، في اعتبار المجتمعات العربية جاهلية. نادى قطب بإعادة تشكيل نواة المجتمع المسلم من جديد، بالنظر إلى أن ذلك المجتمع لم يعد له وجود. أما فرج فشكل الجماعة التي أطلق عليها إعلامياً "رجال الكهف"، والتي ستنقطع عن المجتمع المصري داخل نظام من العزلة الشاملة. الفكرة الجهادية التي ابتكرها قطب، بعد عملية تلفيقية جمعت ما بين محمد عبد الوهاب والمودودي في نظام واحد، ستقود إلى فرج، وداخل مفاعيلها سيقتل السادات.
نشأ الإسلام الموازي باكراً في التاريخ، منذ لاحظ المفسرون القدامى المسافة الشاسعة بين آيتين: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم، واحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد"، من سورة التوبة، والآية القائلة "وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، إن اعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها"، من سورة الكهف. ففي حين تبدو الآية من سورة التوبة مرتبطة بسياقها التاريخاني، حيث المسلمون يخوضون حروباً صغيرة أو كبيرة على أطراف دولتهم الناشئة، فإن الآية من سورة الكهف تأتي خارجة عن السياق التاريخي، مستندة إلى اللازمان، لتقرر موقفاً ختامياً.
بالعودة إلى الطريقة التي تعامل بها أشهر مفسرو القرآن مع الآيتين يجد الباحث نفسه أمام نظام من الكلام الكثير الذي لا يغادر اللغة. فقد انشغل المفسرون في الحديث عن ماهية الأشهر الحُرم المقصودة بالآية، نائين عن مسألة القتل الواردة في الآية، لا متحدثين عن ظروفها ولا شروطها ولا موقعها من نظام التسامح الذي يصر القرآن، في أكثر من موضع، على تأسيسه. إلى أن تدخل ابن عباس قائلاً إن هذه الآية تنقض ما كان النبي قد سمى "للمعاهدين" من العهد والمواثيق.
يستريح القرطبي في تفسيره لكلام ابن عباس، ثم يؤكد قائلاً إنها آية تجيز قتل المشركية "بأي وجه كان". الجماعات العنيفة التي ستنشأ في كل الأزمنة لن تضيف كثيراً على ما قاله الرجلان، ابن عباس والقرطبي. فالأول يقول إنها آية وضعت حداً لفكرة التعايش مع الآخرين ودشنت عهداً جديداً أساسه الحرب الشاملة، على أساس ديني، قائلاً إن توقفَ الحرب مشروط بدخول الآخرين الإسلام. القرطبي، أحد أهم مفسري القرآن، سيجعل القتل "بأي وجه كان" هو المبدأ التشريعي الذي أسسته هذه الآية، وهي غير محدودة بزمن.
وضع المفسرون الأوائل الآية من سورة كهف، آية الحرية الدينية الشهيرة، وتجاهلوا مضمونها بصورة لافتة منخرطين في جدل لغوي حول المقصود بكلمة "السرادق". في الفلسفة التفسيرية لدى الآباء المؤسسين لعلم التفسير الإسلامي كانت الآية تنسخ أختها. في الغالب كانت آية القتال تنسخ آية السلام، وأبعد من ذلك، فقد كان المفسرون يقفزون على آيات عديدة قائلين إنها نسخت بالأحاديث.
في القرن الثامن عشر ابتكر محمد بن عبد الوهاب، توفي ١٧٩١م، فكرة الجاهلية. بالنسبة لابن عبد الوهاب فقد كانت مجتمعات الجزيرة العربية، الغارقة في الجهل والخرافة، جاهلية تعيش مستسلمة لكل نواقض العقيدة العشرة. التطوير السلفي على مشروع محمد بن عبد الوهاب أبقى المسألة ضمن حدودها العقدية، ولم يقترب من مسألتي الحكم والجهاد. ارتبط الخطاب السلفي بفكرة "الفتنة"، نائياً بنفسه عن الجهادية ضد المجتمع المسلم أو الدولة العربية بصرف عن طبيعتها.
المجتمع المسلم، المعاصر، لا يزال جاهلياً، في التفكير السلفي الحجازي، أما الدولة فهي قدرٌ من الأقدار، وهي ظالمة على كل حال. بخلاف التفكير السلفي الحجازي يشق الفكر الديني المصري طريقاً وعراً قائلاً إن الدولة والمجتمعات جاهليان، وأن فكرة الفتنة ليست سوى خضوع يبغضه الله. حاول حسن الهضيبي إيقاف عجلات قطب، فأصدر "دعاة لا قُضاة"، لكن العجلات الجهادية استمرت في الدوران. ففي أعالي التيار، في التاريخ البعيد، توجد النصوص التي تتحدث عن القتل والقتال ببساطة متناهية. منذ الأيام الأولى نشأ إسلام موازي، وجد في عبارة "إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد" مانيفستو لقتال الدول، أولاً، ثم إخضاع المجتمعات ثانياً. ففي مقدمة سورة الأنفال يتداعى قطب في فكرته: قتال الأنظمة السياسية والاقتصادية التي تحول دون شرع الله. ثم، بعد ذلك، جلب المجتمعات الجاهلية إلى الإيمان وفقاً لتصور قطب، وتلاميذه، لذلك الإيمان..
*مدونات الجزيرة