ولتقُم انتخابات في الأراضي التي يسيطر عليها الحوثي، وأخرى في الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة الشرعية.
لتتشكل حكومتان متجاورتان. ولتمضِ الأمور إلى الأمام، شعب واحد على أرضين، جمهورية واحدة بين حكومتين. وليتوقف التحالف العربي عن مهاجمة "أرض الحوثي" على أن يعمل فقط على تعزيز قدرة المناطق المحررة الأمنية والعسكرية..
ستكون هناك جمهوريتان، مع الأيام.. جمهورية ممتدة من المهرة إلى تعز، ومن شبوة إلى الجوف.
والجمهورية الهاشمية الجبلية، جمهورية قي زي ملكي. جمهورية القبائل المسلحة، قبائل النكف و"حنشان الظمأ".
الجمهورية الدستورية، وجمهورية قناة المسيرة.
لا يوجد ما هو أسوأ من هذه الصورة سوى حرب بلا أفق، وموت بلا ضفاف، وخراب بلا ضوء في نهاية النفق.
قبل بداية الحرب، مع سقوط صنعاء، كتبتُ مقترحاً كهذا ونال قدراً كبيراً من التسخيف والاستهزاء. حالياً، وعملياً، تجري الأمور على هذا الشكل. ينقصنا فقط الاعتراف بحقيقة جسيمة هي أكبر الحقائق على الإطلاق، وهي أن اليمن أصبح داخل هذه الصورة: أرضان، حكومتان، وشعبٌ يتمايز تدريجياً إلى شعبين. على وجه الخصوص مع الإشعاع الطائفي المتزايد الذي تضخه الجماعة والقبيلة الطائفية في شمال اليمن، وأخيراً مع قرار القبيلة / الجماعة الطائفية إحالة مناهج التربية والتعليم إلى بيت بدر الدين الحوثي لتنظر فيها، وتجري التغييرات التي تراها ضرورية..
المسافة من نهم إلى مطار صنعاء طولها ٤٠ كم،
و١٠٠٠ عام!
هناك محاولات لدمج اليمنيين من جديد. محاولات داخلية وخارجية. كل المحاولات ترتكز، كلياً، على إهدار الحقوق، وفي مقدمتها الحقوق السياسية. المبادرات، بكل تنويعاتها، تستهدف تنحية الديموقراطية كلياً وخلق يمن واحد على الحافة، يمن التوافقات الهشة المرشحة للانهيار كل نصف عام.
المباردات الراهنة، على أهميتها، تحاول تغطية المشكلة الجوهرية بلحاء عازل، على أن يتخلق في الأخير مخزنان: مخزنٌ تملأه السعودية بالمدفعية، ومخزن تملأه إيران بالألغام. هذا اليمن الملغوم، الذي تعرضه المبادرات الدولية، لن يكون سوى خندق من اتجاهين، يمكن وصفه بأي شيء سوى القول إنه وطن، أو جمهورية مستقرة.
لا تبدو المبادرات قادرة على رؤية شعب من ملايين الناس، شعب يتطلع لحياة جديدة قائمة على الاختيار الحر، والإبداع، شعب يرى في نظام الحكم مجرد شعبة بيروقراطية من شعب حياته اليومية.
تدور المبادرات داخل الطبقات العليا متجاهلة وجود المجتمع، تحديداً: الـ ٨٠٪ الذين تقل أعمارهم عن ٣٠ عاماً. يتوسل المبادرون إلى الساسة من الضفتين كما لو كانوا مالكي عبيد. نحن العبيد، كما تقول المبادرات، وهم المالكون القادرون ـ بصورة نهائية ـ على تحديد شكل الحياة الذي سنذهب إليه غداً. نبدو، بصورة شاملة، معزولين عن أي اختيار. وبالرغم من أننا خضنا الثورة والمقاومة وكنا على مدى خمسة أعوام من يصنع الأحداث إلا ان المبادرات بقيت عاجزة عن رؤيتنا. بقينا غير المرئيين، أو العبيد التعساء، الذين عليهم أن ينتظروا ما سيقوله المتعاقدون في الأعلى، وهم من سيحددون لنا ما ينبغي علينا اختياره في الغد.
اختار أهل عدن النضال المسلح ضد الجائحة الحوثية التي لا يسندها أي قانون. كذلك اختارت تعز ومأرب والضالع. اختار أهل عمران وذمار وصعدة الالتحاق بالجائحة الحوثية، باستثناءات ذات دلالة. تلك اختيارات شعبية لا نملك إزاءها سوى الاعتراف بوجودها أولاً، والتعامل معها كحقيقة ثانياً.
هي اختيارات جماعية لا يمكن تزييفها. عندما قررت تعز الوقوف ضد التيار الحوثي فقد بدأت النضال بـ ٣٥٠ بندقية كلاشنكوف. بينما اختارت عمران، محافظة المائة ألف بندقية، طريقاً آخر.
هناك حكومتان، رئيسان، جيشان، مقاومتان، أرضان، مذهبان!، دستوران، برلمانان، علمان، نشيدان.. إلخ.
الاعتراف بهذه الحقيقة سيضمن انخفاضاً في عدد الجنائز وفي قوافل الجرحى، وسيفتح نافذة في جدار العزلة. كما سيتيح فرصة من الهدوء ستمكن الشعب مستقبلاً من الاتصال بذاته واكتشاف الجذور المدمرة للمشكلة. تلك مسألة هي من مهام التاريخ، هو القادر على حلها ومعالجتها. دعوها للتاريخ، كما كان زعيم أفريقي يردد أمام مسائل شبيهة.
ثم بعد ذلك لنتذكر ما قاله علي سالم البيض عشية ٢١ من مايو، ١٩٩٤، في خطاب فك الارتباط:
وفيما يخص الوحدة اليمنية فلنترك هذا الأمر للأجيال القادمة، هي من ستقرر.
يتحدث الألمان عن برلين الأميركية وبرلين السوفيتية. بما سيشبه اليمن الخليجي واليمن الإيراني، بالنسبة للمؤرخين الذين سيكتبون ذلك فيما بعد.
فالوحشية التي تهاجر بها القبائل من شمال اليمن، مزودة بطبول الحرب والأناشيد الدينية، لكي تقتل الناس في تعز كما فعلت في الضالع ولحج .. تلك الوحشية التي يعرضها مذيعو قناة المسيرة والدم يسيل على شفاههم .. تدفعنا إلى احترام الحقيقة الكبيرة: هناك انقسام أفقي وتاريخي!
وهو انقسام مرشح لمزيد من من الانقسامات العميقة. فالحوثيون يعملون، بتسارع موجي، على تفكيك كل ما له علاقة بجمهورية ٢٦ سبتمبر، بما ذلك مناهج التعليم. يقاتلون سبتمبر كملكيين وكطائفيين..
لا يعني هذا أن الشعب الواقع في أراضي الحوثي هو شعبٌ للحوثي، بل شعب يمني اختار جزءٌ كبير منه، الجزء الأكبر، الالتحاق بالميليشيا والسفر معها لشن حرب على كل اليمن. هذه المعادلة لا يمكن تزييفها، فإذا أخذنا الجيش اليمني كعينة قياس فسيكون بمقدورنا التوصل إلى استنتاج منطقي. انضم أغلب قادة الجيش، وكبار الضباط، إلى جيش الحوثي باستثناءات قليلة لا تغير من حقيقة الصورة.
.. أما بعد
هذه الحرب لا بد وأن تتوقف.
لكي تقف هذه الحرب على الحوثي مغادرة السلاح كلياً مقابل أن يضمن له المجتمع اليمني، والوسطاء الدوليون، الحق الكامل في ممارسة السياسة.
لكن الحوثي لن يفعل ذلك. وهو ما يعني أن سلاماً في وجود سلاح الحوثي هو سلامٌ زائل.
أما الحقيقة الأخرى، في تقديري، فهي أن الحوثي ليس وحيداً في الشمال. فلديه قطاع كبير من المجتمع اليمني مستعدٌ على الدوام للوقوف خلفه ودعمه بالمقاتلين والمقتولين!
قد تستمر هذه المعركة لسنين طويلة، وسيتنزف اليمني من كل جوانبه، وتصبح اليمن مكاناً أكثر خطورة، تضربه العزلة الدولية والجوع ويتسابق أهله في نشر صور القتلى والجرحى على مدار الساعة، والأيام.
هذه الصورة التدميرية أكثر وحشية وخطورة من الأخرى:
ليتدبر الشعب اليمني حياته على الضفتين، وفقاً لاختياراته. الشعب اليمني الذين لا يرى بأساً من الحياة مع الحوثيين بمقدوره أن يجرب الحياة على طريقتهم، ويستطيع أن يطالبهم بتحسين شروط الحياة والنظام العام كما يفعل مواطنو صنعاء حالياً، وطبقتها المتعلمة.
أما الجزء من الشعب اليمني الذي رفض الامتثال للنموذج الحوثي العصاباتي فعليه أن ينظم حياته بطريقة جديدة وأن يلتحق بالعالم.
وأمام الخليج العربي، والجيش اليمني، مهمة لا مناص عنها: الانطلاق من ميدي شمالاً وباب المندب جنوباً والسيطرة على كل الساحل الغربي .. وإعادته لليمنيين الذين رفضوا النموذج الحوثي ليتدبروا أمورهم بشكل أفضل.
وبصرف النظر عن التفاصيل أعلاه فإنه لمن اللافت أن مثل الحديث كتبته قبل عامين بعد سقوط صنعاء. ورغم كل المحاولات التي جرت والجهود التي بذلت لاستعادة الدولة من العصابات المسلحة، إلا أن مثل هذه المقترحات لا تزال ـ للأسف الشديد ـ عملية، وذات صلة، وليست بلا منطق!