مهمشون نحن أيضاً يا "علي" ولست وحدك، مهمشون في أرضنا وتاريخنا وحضارتنا منذ ألف عام ويزيد، منذ أن قَدِمَ هؤلاء البغاة إلى وطننا فقرصنوا دولتنا وطمسوا حضارتنا وعمدوا على تجريف تاريخنا القحطاني السبئي الحميري. مهمشون يا "علي" ونحن أصحاب الأرض الأصليين أحفاد حمير وكهلان ولست وحدك، وأنت المهاجر مع "جعيز" حمير إلى "حبشات" والعائد منها إلى تعز لتموت فيها منتصب القامة مرفوع الهامة مرتاح الضمير.
لقد همش الهواشم الجميع وأزاحوا كل من اعترض طريق حكمهم مستخدمين المذهب والعترة دجلاً وكذباً في سبيل تحقيق غاياتهم ومآربهم في البقاء في الحكم، وفوق ذلك أوغلوا في قتل اليمنيين وسفكوا دماءهم من خلال ضرب الشعب اليمني الأصيل ببعضه البعض ليقتتلوا فيما بينهم وهم أبناء العمومة والدم والنسب الواحد، وهم أصحاب الأرض والغالبية المطلقة فيها، فيما لا يتجاوز الهواشم الوافدين الدخلاء الـ 5% فقط من سكان اليمن. يقتتل اليمنيون لكي يبقى الحاكم الدخيل متربعا سدّة العرش يراقب ضاحكاً جريان دماء وتناثر أشلاء أبناء العمومة من شرفة قصره المتخم بجماجم الأحرار.
اليمنيون الأقحاح مهمشون منذ قرون طوال"يا علي"، مُذ أنْ قَدِمَ الرسِّي إلى بلدهم، ودولتهم اليمانية العريقة مهشّمة الوجه منهكة الجسد جريحة الوجدان، وتاريخها التليد الذي نقشه أجدادهم بمناجل من ذهب ناله تجريف عارم، وحضارتها الضاربة التي كانت منارة بين الأمم توارت خلف "توزات" السلالة الدخيلة القادمة من مجاهل التاريخ.
"علي محمد سعيد" بملامحه السمراء وجسده النحيل وعمره الغض كان في مقدمة الأفواج التي انطلقت لتحرير شرق المدينة من الإنقلابيين، مرتدياً شرف الدولة اليمنية وحاملاً هوية الإنتماء لجيشها الوطني. قاتل علي في جبهات الكرامة لأنه آمن بقضية اليمن العادلة، قضية كل اليمنيين المناوئين للمليشيا، وحمل بين جوارحه هدف نبيل وهو استعادة الدولة اليمنية ومؤسساتها من أيدي الإنقلابيين دون أن ينظر فيما إذا سيكون لفئته المجتمعية أي دور سياسي في مستقبل اليمن بعد اندحار الإنقلابيين سيما وأن الماضي معروف لديه ومُعايَش.
لم تكن وحدك الجندي "المهمش" بين أقرانك الذي حملت بندقيتك وانطلقت تدافع عن تعز التي سكنْتها وسكنَتك، واحتويتها بقلبك واحتوتك بحدقاتها، فهنالك الكثير من رفاقك الذين أبت نفوسهم وضمائرهم أن يتركوا تعز لقمة سائغة لمليشيا انقلابية كهنوتية لتدنسها وتمتهن كرامة أبنائها، المدينة التي فتحت ذراعيها لهم وأكلوا من خيراتها وتنفسوا عليل هوائها، بل شحذوا هممهم وتغلبوا على أوجاعهم والتحقوا بألوية الجيش الوطني دفاعاً عن تعز وعن أبنائها وعن إيمانهم العميق بصوابية طريقهم المقاوم ورفضهم المطلق للإنقلاب على الدولة اليمنية ونظامها الجمهوري.
قاتل "علي" بزنده وزناد بندقيته بشموخ وإباء وتضحية وقُتِل في خضم المعركة الوطنية شهيداً في سبيل الوطن اليمني وسالت دماؤه التي روت تربة تعز وامتزجت بها كما امتزجت روحه بالقضية التي حملها وآمن بها والهدف النبيل الذي بذل دمه في سبيل تحقيقه.
إن المعضلة اليمنية الممتدة منذ اثني عشر قرناً وحتى اليوم الذي فاضت فيه روح المقاتل علي سعيد تكمن في غياب الانتماء لليمن وعدم الإنصهار في نسيجها والذوبان في مجتمعها عند أولئك الذين قدموا إليها بظاهر التأويل وباطن التبجيل، فحولوا ذواتهم وسلالتهم إلى مقدسات، ولم ينتموا مطلقاً لليمن التي احتضنتهم وآوتهم بعدما تمكنوا من حكمها وإذلال شعبها وسكانها الأصليين.
اليمن التي قدِمَ إليها كل الأعراق من فرس وحبش وترك وأرمن، غادروها في النهاية ومن بقي منهم آمنوا باليمن وتداخلوا مع مجتمعها، غادر الفرس وبقي الديلمي يشدو لليمن، وهزم الأحباش وانقفلوا راجعين إلى مملكة أكسوم وانبرى علي سعيد ذائداً عن تعز ومقاتلاً التمرد المليشياوي، وعاد الأتراك إلى بلدهم وظل نصر طه يدافع عن بقاء اليمن وجمهوريتها، وانهارت الدولة الرسولية فاندمج أتباعها من الأرمن كأسرة الشلبي في المجتمع التعزي. المعضلة إذن تكمن في عدم انتماء الهواشم لليمن وانصهارهم فيها، تكمن في تحولهم من فقهاء في التأويل إلى حكام لليمن مع التبجيل والقداسة لما يقرب من اثني عشر قرنا.
لقد غدا اليمنيون غرباء في موطنهم في ظل حكم السلالة الوافدة لأكثر من ألف عام، وهاهي اللحظة التاريخية الفاصلة قد تأتتْ لكي يستعيد اليمنيون زمام حكم دولتهم وينفضون غبار الجهل الذي غطى على وَهَج بريقها، وما دمت قد بذلت روحك يا علي في سبيل الخلاص من هذا الانقلاب الدموي فإن مآل عهود التهميش وصنوف الظلم التي ذاقها اليمنيون ذاهبة إلى زوال دائم.