اليمني الخائف
الإثنين, 14 نوفمبر, 2016 - 02:28 مساءً

قبل سنوات قال فكري قاسم، محرر حديث المدينة، إن صالح لو استطاع أن يصنع "حدَبة" على ظهر كل يمني ليشحذ بها أمام العالم لفعل. وفي مرة، كما يروي أحد مراسلي قناة العربية، وقف صالح على شرفة واحد من فنادق مدينة عمان وألقى نظرة على المدينة. قال لمرافقيه، كما لو أنه اكتشف سراً نادراً: انظروا، لا غرابة، فالملك حُسين اهتم ببناء الإنسان. لم يكن صالح بحاجة إلى زراعة الحدبات، فقد وجد اليمني الأحدب حاضراً، وليس من شيء في اليمن أكثر من اليمني الأحدب.
 
 بعد الوحدة، ١٩٩٠، اتجه صالح والقبيلة جنوباً وزرعوا الحدبات في الشعب الجديد. يقترب المفكر السياسي ياسين نعمان من هذه الفكرة معتقداً إن السلطة القبلية، بعد نجاح نموذج الإذلال والتطويع في تعز، اتجهت إلى جنوب الوطن. هناك استطاعت تفعيل نموذج الإذلال، ونصبت الحدَبَات.
 
عاش اليمنيون في "١٠٠٠ عام" من العُزلة. كان نظام الحكم يصنع الذل عن طريق الجوع، ثم يستخدم الجوع كآلة لصناعة الارتزاق، ثم يستخدم المرتزقة في الحرب المستدامة. كانت الحرب المستدامة هي الوسيلة المؤكدة لمنع انهيار النظام السياسي. نحواً من هذا استنتجت "شيلاغ واير" في بحثها الذي أجرته، ٢٠٠٧، حول القانون والقبيلة والتاريخ في جبال اليمن. فقد كان الجياع، المستعدون دائماً للعمل كمرتزقة، هم حراس مملكة العُزلة، وكانوا يستخدمون في تطويع الخصوم والاستحواذ على مناطق الخرَاج.
 
منذ أكثر من ألف عام واليمنيون يبحثون عن الحُرية، تلك الدالة التي ستعني الخروج من الذل. ثمة قولٌ تاريخي عمره مئات السنين ينسب كل مرة إلى فقيه، يقول: ولدتني أمي في صنعاء ولما خافت علي من عزلة اليمن بعثتني إلى قريبٍ لنا في مكة. بصرف النظر عن القائل فالمقولة عمرها مئات الأعوام، وقد عاشت صحيحة داخل تاريخها: العزلة اليمنية.
 
لا شيء خلف أسوار العزلة سوى الذل، الخوف من الغرباء، ورُهاب العالم. في عوالم مقهورة كتلك يعيش الرجال مستعبدين للنظام السياسي، وتعيش المرأة "عبدة العبد"، كما يقول إنغلز. ينجب الرجال أطفالاً فتربيهم نساء مكسورات ليصبحوا مهزومين عندما يكبرون. تستمر المتتالية الإذلالية على شكل شلال من أعلى التاريخ إلى أدناه، وأحياناً على شكل دائرة: من أب مهزوم إلى ولد مهزوم، سيصبح أباً مهزوماً. في المحصلة تصبح الهزيمة مصيراً تاريخياً.
 
في العصور الحديثة، بعد سقوط أسوار العزلة القديمة، أقيمت أسوار لعزلة جديدة. فشل السياسيون في اكتشاف الكبرياء الوطني، أو اختراعه. وفي مراحل بعينها، كمرحلة صالح، بنيت أسوار العُزلة كعقيدة للحكم. الشعلة الأولى من الكبرياء الوطني التي أشعلها الثوار، في ساعات النشيد الأول والدبابة الوحيدة وقصر الملك المحترق والبيان رقم واحد، تلاشت. فقد سُحبت السياسة من الملك الهارب وأسندت إلى قبيلة من دِين المَلِك. بآلية الملك الهارب نفسه عملت القبيلة المتطيفة على إخضاع الآخرين، عامدة إلى استزراع شكل جديد من الذل الجمهوري. وعندما شاهد صالح أول ظاهرة احتجاجية في ٢٠١١، دفع قواته إلى ميدان التظاهر في العاصمة وبنى الأسوار.
 
احتشد التاريخ، بأفعاله وسيرته، ونصب على ظهر اليمني حدَبة. في شعر البردوني تأرجح اليمني التاريخي بين رجلين: المحمول على نسر، والمتلفت خوفاً. لكنه عاش، أغلب زمنه، خائفاً يترقب، وبقيت عيناه مليئتين بالرمد والجوع للعالم.
 
دخل البردوني الأعمى صنعاء قادماً من جنوبها وعثر عليها ميتة. لقد ماتت قبل مئات السنين مدفونة في صندوق شاعرها "وضاح اليمن "، لاحظ البردوني. غير أن جنين الفن والطرب، بكل ما يشير إليه من كبرياء وحيوية، بقي حياً في أحشاء الجثة الهامدة. شهد العالم في ٢٠١١ محاولة جماعية كبيرة للإفلات من الذل، واستعادة ذات غير مكسورة. كانت محاولة تاريخية لاكتشاف الجنين الحي في أحشاء صنعاء الميتة، وفقاً لفرضية البردوني. شوهدت الأجيال الجديدة وهي تنام في الميادين أكثر من ٧٠٠ يوم.
 
انتهت المحاولة تلك، على عبقريتها، بطور هش من السياسة ثم طور ممتد من الحرب على طريقة حكام المملكة الهاشمية: استخدام المهزومين كمرتزقة لقتال أولئك الذين يحاولون الخروج من هزيمتهم. ميكانيزم لم يبلَ من التكرار: قتال الأحرار بالعبيد، داخل ذات النوع. فبعد أن انهارت عمران أمام جيش الملك الجديد ارتاح مقاتلوه فأكمل المهزومون خوض الحرب لصالحهم.
 
الجوع والحرب والشك والعزلة والظواهر الدينية والسحرية والأرض الصعبة والمطر الذي يأتي ولا يأتي والقدر الجغرافي.. كل ذلك تمالأ على اليمني وجعله خائفاً. أمام السياسة فجعلت من الإنسان الخائف إنساناً مهزوماً. تحكي فرضيات علمية كثيرة عن إنسان أول ظهر في أفريقيا وعبر مضيق باب المندب إلى اليمن، ثم إلى باقي العالم. كانت اليمن الباب الذي دخل منه "الكائن البشري" إلى العالم، ولم يغلق إلا بعد زمن طويل. ليست اليمن هي "المهد"، كما تقول قصيدة نثر طويلة لأدونيس، بل بوابة العالم الحديث، الباب الجنوبي المهجور، الذي لا يزال يطل على أفريقيا من جهة وعلى العالم من جهة أخرى كما كان.
 
يحتاج اليمني الراهن إلى نظرية شاملة تركز أولاً على اختراع كبريائه، إلى مخاطبة الإنسان الأول في أعماقه، إلى استعادة شاملة لذاته وترميمها، إلى معالجة نفسية عامة ـ بقدر من الراديكالية القومية. كانت تجربة الرئيس الحمدي لافتة، فخلال أشهر قليلة شاهد اليمنيون رؤساء دول عديدة يزورون بلدهم. سقط جدار العزلة بين اليمني والعالم. استمعوا لرجل يخبرهم أن السلطة ليست شيئاً سوى سلسلة من القوانين، وهي شيء يخصهم ولا يستعبدهم. وجدوا أنفسهم أحراراً وهم يعبرون أمام الميري، أو يشاهدون السيارات الجديدة، أو يقفون أمام باب المحكمة. لكن ذلك الرجل قتل في ظروف غامضة، وتوقف الرؤساء الأجانب عن القدوم. من جديد هرب اليمني إلى مخبئه، وعاد لينظر إلى العالم من خلال ثقب في الباب على طريقة بطل هنري باربوس في "الجحيم".
 
في جانب كبير من حياته كان الحمدي يتحرك كـ"شامان"، أو معالج روحي متمرس. يعكف كتاب التاريخ الجدد على القول إنه كان يفسح مكاناً كبيراً للقائد العسكري الغشمي، وذلك كان هو المهيمن الحقيقي على مؤسسات الدولة. بصرف النظر عن الدقة التاريخية لهذه الرواية فقد كانت رحلة الحمدي تسعى لاستعادة الروح اليمنية التائهة والمهزومة، ومنحها قدراً من الكبرياء والتحدي. ذلك أكثر خطورة من إدارة الأوراق.
 
عثر مهاتير محمد في "المشكلة الماليزية" على المعادلة ذاتها. نظر إلى ماليزيا كجهاز يتألف من هارد وير، الجزء الصلب، وسوفت وير، الجزء النفسي/ البرمجي. قال إن بناء الطرقات والمدارس لا يكفي لخلق شعب قادر على المنافسة، فلا بد من معالجة ال"سوفت وير"، اختراع الكبرياء، إعادة برمجة العقل والسايكو للأمة حتى تكون قادرة على تشغيل "القرص الصلب" الحديث. ابتكر لوغو "ماليزيا قادرة"، وجعله لغة الحياة اليومية. مع الأيام كان الماليزي الاعتيادي قد اعتقد ـ بصورة كبيرة ـ أن بلده قادرة، وأنه أيضاً يقدر، ودرت الماكنة الماليزية: قرص صلب وقرص مرن.. معاً.
 
منذ مقتل الحمدي وحتى الآن ظهرت على المنصة أجيال من القادة فشلت في الاتصال بحقيقة الأزمة اليمنية، نفسياً. وفي أكثر من مرحلة راح القادة يعزلون اليمني عن العالم، أو يضعون على ظهره حدبة.

*مدونات الجزيرة

التعليقات