[ تمييز عنصري ضد النساء تحت يافطة العادات ]
في كل مناسبة عائلية تتمنى سماح أحمد (26 عاما) أن تتشارك الطعام مع أفراد أسرتها الإناث بشكل طبيعي، دون أن يكون للرجال أولوية عليهن في عادة تناول الطعام في المناسبات، بمحافظة عمران (شمالي اليمن).
سماح التي تقطن مدينة عمران تجد نصيبها ومثيلاتها من النساء في فتات المائدة التي تُعِدّها بنفسها وتقدمها لذويها الرجال وضيوفهم، بينما تُحرَم هي من أفاضل تلك المائدة، وتبقى في انتظار الفتات، حيث حظها وحظ الكثير من نساء المحافظة الواقعات تحت طائلة تمييز تقضي به عادة قبلية هناك.
تمييز سلبي
فما يتبقى من طعام الرجال يُعاد ويُقدّم إلى النساء اللاتي يحل دورهن في عادة تناول الطعام عقبهم، فلا يحق لهن مشاركة الرجال المائدة ولا استباقهم فيها، فنصيبهن من الطعام يكمن في البواقي. وذلك ما تعارف عليه الناس هناك أثناء تقديم الطعام خلال مناسبات الضيافة، وفق مقتضى عادة اجتماعية سائدة في المحافظة.
وتقضي العادة بأن يحل دور النساء في تناول الطعام ثانيا، بينما يتقدم الرجال أولا. وتفرض العادة على النساء تقديم الطعام كاملا للرجال دون الإبقاء على شيء منه لأنفسهن، وذلك بهدف إظهار الكرم كما هو متعارف، ثم يكون عليهن بعد ذلك انتظار حظهن في بواقي المائدة.
فاطمة الأهنومي (اسم مستعار) هي الأخرى، تشكو من مشكلة التمييز التي تتعرض لها من قبل سلطة الرجال الذين يحتكرون تشريف المناسبات لأنفسهم دون الإناث، لكنها لا تجرؤ على رفض تلك المشكلة علانية.
عادة جائرة
الأهنومي التي تقطن مديرية خارف (جنوب شرق محافظة عمران)، تقول إن إحرامها من حظوة المشاركة في المناسبات التي تعد حكرا للرجال دون النساء؛ هو أمر يؤلمها ويشعرها بالامتهان، لكنها لا تملك حيلة أمام هذه العادة.
فالمناسبات الاجتماعية التي تقام في المنازل تكون تكريما خالصا للرجال فقط، وهو امتياز خاصا بهم دون النساء. لذلك لا ترى الأهنومي في هذا الكرم المتعارف عليه بمناسبات الضيافة سوى فضيلة مزعومة، وقيمة أخلاقية منقوصة، وذلك لاستثنائها النساء.
تقول الأهنومي، وهي زوجة وأم لتسعة أطفال جُلهم من الإناث: إن دورها في مناسبات الضيافة التي يقيمها ذويها الذكور، ينحصر فقط في إعداد الطعام وتقديمه جملة واحدة للضيوف.
وتؤكد أن العرف لا يسمح لها الإبقاء على شيء من الطعام لها ولصغيراتها ونساء المنزل، إنما عليهن انتظار ما يتبقى من مائدة الرجال. وفي حال أبقت نفسها بعض الطعام قبل تقديمه للضيوف فإنها تكون قد وقعت في المحظور، ولطال أسرتها العار.
استهجان
"ليس لنا نحن النساء نصيب من تشريف المشاركة في المناسبات الأسرية والاجتماعية هنا، إنما علينا غُرمها وللرجال غنمها". هكذا تتحدث الأهنومي مظهرة إحساسا بالظلم.
فهي لا تستطيع فهم هذه العادة، لكنها تقول إنه أمر متعلق بالشهامة والسمعة بين الناس، ذلك ما تنشأت عليه، وما كان لها أن تخالف أمرا يجمع عليه المجتمع الذي تعيش فيه.
وتتضمن هذه العادة تمييزا سلبيا ضد المرأة، وهي إحدى المخلفات العنصرية للعادات القبلية التي تمتهن المرأة وتلغي أغلب حقوقها، ليس الحقوق الاجتماعية فحسب، بل وحتى الشخصية والنفسية، وفق علي العَقبي.
سطوة الأعراف
يقول العَقبي -وهو محامٍ وناشط حقوقي من أبناء المحافظة ذاتها- في حديث إلى "الموقع بوست": إن العادة حاضرة في عمران ومتجذرة منذ عقود طويلة.
ويرجع نشأتها إلى الفترات الأولى التي تشكل خلالها الوعي القبلي في المحافظة. لكنه يزعم أن العادات ما عادت سارية اليوم سوى في بعض مناطق المحافظة، لا سيما المناطق الريفية التي لا تزال قبضة الأعراف القبلية فيها شديدة.
يتغذى التمييز ضد النساء في عادة الضيافة بعمران على ثقافة العادات القبلية، وينشط في مناخ حقوقي متدني لا تزال المرأة ترزح تحت ظله في العديد من المحافظات اليمنية، ومنها محافظة عمران. حيث النساء لا تزال شأنا خاصا بالرجال، ولا تسري عليهن المحددات الحقوقية المنصوصة في الدستور اليمني إلا على نحو محدود، وذلك ما تؤكده بشكل واضح وثيقة القواعد المرجعية العرفية التي أقرتها قبائل اليمن كافة في العام 1837.
عُلوق
لا تحظى النساء في محافظة عمران بالكثير من المناصرة، ولسن ضمن نطاق الحملات الحقوقية المساندة للمرأة، بحكم انتمائهن لمجتمعات مغلقة.
وفي ظل هذا الوضع لا تملك سماح أحمد وفاطمة الأهنومي سوى الرضوخ للتمييز الكامن في عادة الضيافة، والمفروض عليهن من قبل المجتمع، والذي يقضي بأن يكون حظهن في فُتات موائد الرجال، لذلك يضطررن للتعايش مع ذلك الوضع في ظل غياب الحلول.
جناية الأسرة
تعتبر الأسرة المصدر الأول لتقديم الحماية والعون لأفرادها أمام العديد من أشكال التمييز العنصري، لكن ذلك ليس ساريا في عمران، فالأسرة ذاتها فضلا عن المجتمع، هي مصدر التمييز الموجه ضد النساء في المحافظة.
لا تتجاوز مطالب الأهنومي حق تناول الطعام بكرامة وضمان مشاركة عادلة لها في مناسبات الضياف. تقول:" فقط لا أريد أن أشعر بأني مجرد خادمة، أريد أن أعد الطعام وأقدمه للرجال بدافع المودة والكرم وليس بداعي الواجب الاجتماعي الذي يشعرني بأني مجرد خادمة".
جهل الجناة وخوف الضحايا
لا تجرؤ الضحايا على المطالبة بإنصافهن ومساواتهن بأقرانهن الذكور في عادة الضيافة، لأن الجناة هم ذويهن أنفسهم، بحسب العقَبي.
يُرجع العقبي أسباب امتناع الضحايا عن مواجهة ذويهن "الجناة" إلى الخشية من ردة فعلهم المتوقع أن تكون قاسية، وذلك لأنهم لا يرون هذا التمييز من الأساس، ولا يجدون بأسا في العرف المنظم للمناسبات وعادات الضيافة. لافتا إلى افتقار أبناء المحافظة إلى الوعي اللازم للتعامل مع تلك المشكلة.
إضافة إلى ذلك، فإن الكثير من نساء المحافظة لا ينظرن لهذا النوع من التمييز كمشكلة تستوجب الحل، إنما كعادة سائدة ومتعارف عليها داخل المجتمع.
وذلك بسبب الجهل والتطبع الطويل مع الوضع القائم، بحسب العقبي، الذي يرى أن افتقار أبناء المحافظة للوعي الحقوقي اللازم يساهم في استمرار التمييز ضد النساء وبقاء الوضع على ما هو عليه.
لا يقتصر هذا النوع من التمييز على محافظة عمران فحسب، بل يشمل أيضا مناطق أخرى في نطاق أرياف محافظتي صعدة وصنعاء.
تداعيات نفسية
وإلى جانب كونه امتهانا حقوقيا للمرأة؛ يفرز ذلك التمييز تداعيات نفسية تلقي بظلالها سلبا على واقع ومستقبل المرأة تلك المناطق.
يرى عبد الله البعداني، المتخصص في الإرشاد النفسي والاجتماعي بمؤسسة التنمية والإرشاد الأسري في صنعاء، أن التمييز ضد النساء في عادة المشاركة بالمناسبات ينطوي على مخاطر نفسية واجتماعية كثيرة تطال النساء في المناطق التي يسود فيها هذا النوع من التمييز.
ويقول إن هذا التمييز يساهم في إحلال وترسيخ مشاعر الإحباط والهوان في نفسية المرأة، معتبرا إياه من أبرز مسببات الألم النفسي الذي قد يتطور إلى اضطرابات سيئة كالقلق والاكتئاب والفصام والرهاب الاجتماعي.
وأمام سطوة العُرف وغياب الوعي وضعف الحماية القانونية لا تملك الأهنومي وسماح أحمد أي حيلة للتحرر من ربقة التمييز العنصري الذي تعانيان منه، فيما يستمر حالهن وحال الآلاف من النساء في المحافظة على ما هو عليه، دون تغيير.
"تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع غرفة أخبار الجندر اليمنية الذي تنفذه مؤسسة ميديا ساك للإعلام والتنمية".