[ عبد الملك المخلافي مع وزير خارجية روسيا في لقاء سابق ]
أعاد التحذير و"القلق الروسي" من خطط التحالف العربي لتحرير ميناء الحديدة، والذي عبّرت عنه الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زخاروفا، الاثنين الماضي، أعاد إلى الأذهان طبيعة الدور الروسي المحتمل في الأزمة اليمنية بعد التطورات العسكرية الأخيرة في الساحل الغربي لليمن، خاصة أن الموقف الروسي من الأزمة اليمنية اتصف بالتذبذب منذ بدء عملية "عاصفة الحزم"، ومناشدة الانقلابيين في اليمن عدة مرات للسلطات في موسكو بالتدخل العسكري في البلاد.
اتسم الموقف الروسي من الأزمة اليمنية بنوع من الغموض منذ البداية، حيث ظلت روسيا محتفظة بتمثيل دبلوماسي في العاصمة صنعاء التي يسيطر عليها الانقلابيون، وفي نفس الوقت، ظلت محتفظة باعترافها بالسلطة الشرعية ممثلة بالرئيس عبد ربه منصور هادي، ولم تعترف بأيٍّ من الإجراءات الأحادية التي اتخذها الانقلابيون في صنعاء، كما أنها لم تستجب لمطالبهم المتكررة لها بالتدخل العسكري، ولم تعلق عليها مجرد تعليق.
والسؤال هنا: ما الذي يعنيه "القلق الروسي"؟ وما هي دلالات توقيته؟ وما هي عوامل ومحددات الدور الروسي في اليمن؟ وهل "القلق" والتحذير من تحرير ميناء الحديدة فاتحة لتحول جديد في الموقف الروسي من الأزمة اليمنية؟ أم أنه مجرد حديث للاستهلاك الإعلامي؟
- قلق إنساني أم سياسي؟
في الحقيقة، يمكن وصف "القلق الروسي" بأنه "قلق سياسي مغلف بقلق إنساني"، فإذا كانت المتحدثة باسم الخارجية الروسية بررت "القلق الروسي" من تحرير ميناء الحديدة بأنه سيقطع وصول المساعدات الإنسانية إلى صنعاء، وسيجبر السكان على الهروب، لكن لا يعني ذلك أن "القلق" دوافعه إنسانية بحتة، وإنما الغرض منه تسجيل موقف سياسي، ومزاحمة الغرب في مختلف ملفات المنطقة، خاصة أن هذا التصريح جاء بعد أيام قليلة من دعوة السفير الأمريكي السابق لدى اليمن جيرالد فايرستاين إلى دعم الحكومة الشرعية والتحالف العربي لتحرير ميناء الحديدة من الانقلابيين.
كما تزامن تصريح الخارجية الروسية بشأن تحرير ميناء الحديدة مع الحديث عن تواجد عسكري روسي في مناطق غرب مصر بالقرب من الحدود الليبية بغرض تدخل عسكري هناك دعمًا لقوات خليفة حفتر، بالإضافة إلى إعلان إيران -بعد يوم واحد من تصريحات المتحدثة باسم الخارجية الروسية بشأن اليمن- إرسالها مدمرة وسفينة حربية إلى خليج عدن، فما الذي يعنيه كل ذلك؟
واللافت أيضًا أن المتحدثة باسم الخارجية الروسية لم تلوّح بإمكانية تدخل بلادها عسكريًا في الأزمة اليمنية، وحرصت على استخدام مصطلحات وعبارات ترددها الحكومات الغربية عند تبرير تدخلها في مختلف الملفات الساخنة في المنطقة العربية، حيث ركزت على الجانب الإنساني والخوف من تمدد الجماعات الإرهابية.
فقد قالت ﺍﻟﻨﺎﻃﻘﺔ ﺑﺎﺳﻢ ﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻴﺔ الروسية ﻣﺎﺭﻳﺎ ﺯﺍﺧﺎﺭﻭﻓﺎ ﺇﻥ ﺧﻄﻂ ﺍﻗﺘﺤﺎﻡ ﻣﻴﻨﺎﺀ ﺍﻟﺤﺪﻳﺪﺓ ﺳﺘﺆﺩﻱ ﺇﻟﻰ ﻫﺮﻭﺏ ﺍﻟﺴﻜﺎﻥ، ﻭﺳﺘﻨﺸﺮ ﺍﻟﻔﻮﺿﻰ ﺑﻤﺎ ﻳﻌﻮﺩ ﺑﺎﻟﻤﺼﻠﺤﺔ ﻋﻠﻰ ﺗﻨﻈﻴﻤﻲ القاعدة والدولة الإسلامية (داعش).
كما حذرت من ﺃﻥ ﺗﺼﻌﻴﺪ ﺍﻷﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﻌﺪﺍﺋﻴﺔ ﺳﻴﻔﺎﻗﻢ ﺍﻟﻮﺿﻊ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﺍﻟﻜﺎﺭﺛﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻴﻤﻦ، واتهمت الغرب بعدم الاكتراث للقضية ﺍﻟﻴﻤﻨﻴﺔ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺮﻛﺰ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺯﻣﺔ ﺍﻟﺴﻮﺭﻳﺔ، ﺩﺍﻋﻴﺔً ﻟﻠﻮﻗﻒ ﺍﻟﻔﻮﺭﻱ ﻟﺠﻤﻴﻊ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ، ﻭﺍﻻﺣﺘﻜﺎﻡ ﺇﻟﻰ ﻃﺎﻭﻟﺔ ﺍﻟﻤﻔﺎﻭﺿﺎﺕ ﺑﻤﺴﺎﻋﺪﺓ ﺍﻟﻤﺒﻌﻮﺙ ﺍﻟﺨﺎﺹ ﻟﻸﻣﻢ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ.
تبدو تصريحات المتحدثة باسم الخارجية الروسية طبيعية ولا تحمل نبرة تهديد بالتدخل العسكري، لكن اللافت أنها -أي التصريحات- أثارت ضجة كبيرة، لاسيما الترحيب الذي قوبلت به من قبل سلطات الانقلاب في صنعاء، كما أنها أثارت مخاوف بعض المناصرين للسلطة الشرعية.
- مآزق الصعود المراهق
صحيح أنه تم إعطاء "القلق الروسي" حجمًا أكبر من حجمه، وربما فسّره البعض بأنه بداية لتحول جديد بخصوص الموقف الروسي من الأزمة اليمنية، لكن ما يجب التأكيد عليه هو أن هناك العديد من العوامل التي تحكم مسار العلاقات الدولية سلمًا وحربًا. وفي الحالة اليمنية، هناك العديد من المآزق التي تتحكم في الموقف الروسي من الأزمة اليمنية، وسيتم توضيح ذلك كما يلي:
- دوافع التدخل الروسي في مختلف أزمات المنطقة الهدف الأساسي منه استعادة دور الاتحاد السوفييتي سابقًا، ومزاحمة الدول الغربية على تقاسم النفوذ في المنطقة، ما يعني أن الدور الروسي قائم على استعادة النفوذ وليس الجانب الأخلاقي أو حتى النفعي.
- تحاول روسيا استعادة نفوذها من خلال "مشاغبة الغرب"، لأن صعودها السياسي والاقتصادي والعسكري المتدرج لا يمكن إثباته إلا من خلال "مشاغبة" الدول الكبرى، ويمكن وصف هذا الصعود بـ"الصعود المراهق"، لأنه لا يوازن بين الجوانب الأخلاقية والمصالح الاقتصادية والدوافع الأمنية، ولكنه يكتفي بمشاغبة الدول الغربية والاعتراض على كل مواقفها بصرف النظر عن توافقها مع المصالح الروسية أم لا.
ويؤكد ذلك أن روسيا عادة ما تحرص على مخالفة الدول الغربية الكبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن، عند التصويت على أي قرار يصدره المجلس بخصوص بعض الملفات الساخنة في العالم.
- الدول الغربية الكبرى تدرك تمامًا أن الصعود الروسي ما زال في طور "المراهقة"، ولذلك فهي تتعامل معها بما لا يؤدي إلى الاصطدام العسكري وخوض حروب مكلفة بلا هدف واضح، ومن هنا يمكن تفسير سياسة الرئيس الأمريكي ترامب بالتعاون مع روسيا بأن الغرض من ذلك احتواء مشاغباتها.
- بما أن السياسات الغربية والمواقف من الصراع في الشرق الأوسط لم تنحاز إلى جانب أي طرف بشكل واضح، واكتفت بالحرص على أن يكون التدخل العسكري بذريعة الحرب على الإرهاب، وإبقاء بعض الدول العربية في حالة حروب أهلية طويلة الأمد بغرض إنهاكها بما يضمن السيادة والتفوق لإسرائيل، فإن ذلك أربك روسيا، وجعلها تبرر تدخلها أيضًا بالحرب على الإرهاب، وإذا مالت بوصلة المواقف الغربية في أي اتجاه، فإن روسيا ستحرك بوصلة مواقفها في الاتجاه المضاد.
- ما سبق يفسر الموقف الروسي الأخير بخصوص تحرير ميناء الحديدة، ذلك أن تصريح المتحدثة باسم الخارجية الروسية، الذي تضمن تحذير وقلق بلادها من خطط التحالف العربي لتحرير الميناء، لا يعدو كونه مجرد رد فعل على دعوة السفير الأمريكي السابق لدى اليمن جيرالد فايرستاين إلى دعم السلطة الشرعية والتحالف العربي لتحرير ميناء الحديدة، ولو أن السفير الأمريكي حذر من تحرير الميناء، فإن موسكو كانت ستدعو إلى ضرورة تحريره.
- لن تغامر روسيا بالتدخل العسكري في اليمن لعدة أسباب، أهمها، أن اليمن ومضيق باب المندب ومنطقة الخليج العربي بمثابة "حقل ألغام" سياسية وعسكرية، باعتبارها مناطق حصرية للنفوذ الغربي، وتحديدًا الأمريكي، ومضيق باب المندب يخضع لاتفاقيات دولية، وغير مسموح لأي دولة بالسيطرة عليه منفردة وتهديد مصالح مختلف الدول الأخرى.
- إذا كانت روسيا قد استعادت علاقاتها وبعض نفوذها في المناطق التي كانت تمثل المجال الحيوي للنفوذ السوفييتي سابقًا، وبما أن اليمن -وتحديدًا دولة اليمن الجنوبي قبل الوحدة- كانت إحدى ساحات هذا النفوذ، إلا أن طبيعة التحولات السياسية والأيديولوجية والتحالفات الراهنة تختلف تمامًا عن مثيلاتها في الحقبة السوفييتية. فمن ناحية، فإن من تبقى من حلفاء الاتحاد السوفييتي سابقًا لم يعد لهم أي دور مؤثر في اليمن، وهم خارج المشهد السياسي تماما. ومن ناحية أخرى، لا تريد روسيا أن تظهر بمظهر التابع لإيران بسبب البعد الطائفي للصراع، بل تريد أن تظهر متحررة من أعباء تحالفها مع إيران.
الخلاصة، تحذير روسيا وقلقها من تحرير ميناء الحديدة يأتي في سياق سياستها التي تعكس صعودها "المراهق"، والمتمثلة في "مشاغبة" الدول الغربية، ويأتي ذلك ردًا على دعوة السفير الأمريكي السابق لدى اليمن جيرالد فايرستاين إلى دعم الحكومة اليمنية والتحالف العربي لتحرير ميناء الحديدة.
وقد سارعت إيران إلى استغلال تصريح الخارجية الروسية، وأعلنت عن إرسالها مدمرة وسفينة حربية إلى خليج عدن، في محاولة يائسة منها للارتماء خلف الحليف الروسي بغرض تخفيف المواقف المتشددة لدونالد ترامب إزاءها، وإظهار الأمر وكأنه تم بالتنسيق بين طهران وموسكو، بغرض تحدي الإدارة الأمريكية الجديدة، واستفزاز دول الخليج.