[ "كل رجال الرئيس" أضخم دراسة عن العمل الصحفي يمكن أن نشاهدها في فيلم روائي طويل (مواقع التواصل) ]
رغم أهمية الصحافة الحرة للبشرية، فإنها كانت الأقل حظا في السينما، فلم تقدم هوليود في تاريخها أكثر من 30 فيلما روائيا يتناول الرسالة الإنسانية للصحافة، ومعاركها من أجل كشف الحقيقة ومحاربة الفساد.
وفي مقدمة هذه الأفلام كان فيلم "كل رجال الرئيس" (All the President’s Men)، الذي عرض عام 1976، واكتسب أهميته من تناوله وقائع حقيقية حدثت في أوائل سبعينيات القرن الماضي، حيث هزت فضيحة "ووترغيت" -التي كشفها صحفيان من واشنطن بوست (The Washington Post)- الإدارة الأميركية بعنف، وفضحت مؤامرة للتغطية على انتهاكات السلطة قادها رجال البيت الأبيض المحيطين بالرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، وأدت إلى استقالته في النهاية.
وحظي الفيلم بجماهيرية هائلة، رغم مرور ما يقرب من 45 عاما على عرضه، وكان يقفز إلى ذاكرة الجمهور مع كل فضيحة سياسية تتفجر في أي بلد العالم.
كما هددت الصحافة الحرة إمبراطورية صناعة التبغ العابرة للقارات في فيلم "المُطّلع" (The Insider) عام 1999، وزلزلت الكنيسة الكاثوليكية في فيلم "ضوء كاشف" (Spotlight) عام 2015.
كل رجال الرئيس
في هذا الفيلم سنرى النجمان الأميركيان روبرت ريدفورد (بوب وودوارد) وداستن هوفمان (كارل برنشتاين) كأنهما مراسلين حقيقيين، "فقد غرقا في شخصياتهما وحققا المصداقية الكاملة؛ لدرجة أنه لا توجد ملاحظة خاطئة على أدائهما في الفيلم بأكمله"، حسب الناقد السينمائي روغر إيبرت.
أما المخرج آلان جيه باكولا، فقام بعمل رائع على مدى ساعتين و18 دقيقة للحفاظ على سرعة الإيقاع، وإبقاء حوارات ويليام غولدمان (الفائز بأوسكار أحسن سيناريو عن الفيلم) مشدودة وقادرة على إحداث التوتر للمشاهد.
وقدم لنا أضخم دراسة عن طبيعة العمل الصحفي يمكن أن نشاهدها في فيلم روائي طويل، وجسدت مدى صعوبة الصحافة الاستقصائية في عصر ما قبل الإنترنت والهواتف المحمولة، وما يعترضها من تهديدات.
ورغم المنعطفات والتفاصيل المعقدة في فضيحة ووترغيت "تمكن الفيلم من جعلها مفهومة وقابلة للمشاهدة، مع بعض اللمسات البراقة لاستيعاب الحقائق"، على حد قول الناقد أليكس فون تونزيلمان.
لذا جاء الفيلم -الذي حصد 4 جوائز أوسكار- دقيقا فيما يتعلق بالعمليات التي يستخدمها المراسلون الاستقصائيون، إلى حد إغراقنا في بحر من الأسماء والتواريخ وأرقام الهواتف والمصادفات والأخطاء، والعمل الدؤوب، والإنكار والمراوغة، وصولا إلى الحقيقة، بمساعدة مصدر غامض، يُطلق عليه "الحنجرة العميقة" (Deep Throat)، وهو مسؤول حكومي رفيع لم يُكشف عن هويته لما يقرب من 30 عاما، حتى أعلن المدير المساعد السابق لمكتب التحقيقات الفدرالية "إف بي آي" (FBI) مارك فيلت في عام 2005 أنه هو.
المُطّلع
هذه المرة يقدم لنا المخرج مايكل مان لمدة ساعتين و37 دقيقة فيلما مثيرا، تكشف فيه الصحافة الاستقصائية أكاذيب شركات التبغ الكبرى، التي طال أمد التعتيم عليها.
الفيلم اشترك مان في كتابته مع إريك روث، بوحي من مقال للكاتبة الأميركية ماري برينر، بعنوان "الرجل الذي عرف كثيرا"، نُشر في مجلة "فانيتي فير" (Vanityfair) عام 1996.
وفيه نرى آل باتشينو صحفيا استقصائيا بطلا، يجمع بين شخصيتي وودوارد وبرنشتاين في دور لويل بيرغمان، مُنتج برنامج "60 دقيقة" لشبكة سي بي إس (CBS) الإخبارية الأميركية، وأستاذ التلاعب النفسي العنيد الذي يوجه مصدره بلا كلل نحو كشف الحقيقة.
ففي افتتاحية الفيلم نراه معصوب العينين، يُنقل إلى منزل آمن تابع لحزب الله في لبنان، كي يتفاوض على إجراء مقابلة، لنعرف أنه مجرد يوم في حياة صحفي محترف.
استطاع بدعم من زميله مايك والاس (الراحل كريستوفر بلامر) مقدم البرنامج أن يشجع خبير التبغ جيفري ويغاند (راسل كرو) على الحديث عن أسرار دقيقة تتعلق بإضافات تجعل النيكوتين أكثر إدمانا، أحدها مادة مسرطنة معروفة. ثم خاض حربا مع مديري المحطة التنفيذيين لنشر الحقائق، دعمته فيها سلسلة مقالات نشرتها صحيفة وول ستريت جورنال (The Wall Street Journal).
لم يكتف مان بفضح التستر على مخالفات شركات التبغ، ولكنه مر أيضا بمحاذاة أزمة أخلاقيات الصحافة، مثيرا التساؤلات حول دوافع معارضة شبكة "سي بي إس" نشر القصة، وهل هي فعلا خشية رفع دعوى قضائية، أم رغبة المديرين التنفيذيين في حماية سعر أسهمهم.
ضوء كاشف
قصة حقيقية هزت الكنيسة الكاثوليكية في بوسطن عام 2002، إنها دراما غرفة الأخبار للمخرج توم مكارثي، المحسوبة بدقة وبشكل مثير للانتباه، في وصفها التفصيلي على مدار ساعتين و9 دقائق، لتحقيق بوسطن غلوب الحائز على جائزة بوليتزر، عن فضائح التستر على حوادث الاعتداء الجنسي على الأطفال داخل الكنيسة الكاثوليكية.
عبر كومة مرعبة من الأدلة، وفريق استقصائي رائع مكون من مايكل كيتون، ومارك روفالو، وراشيل ماك آدامز، في دور 3 صحفيين استطاعوا أن يهزوا الكنيسة في الصميم.
البداية عام 1976 من مركز شرطة بوسطن، حيث يُحتجز كاهن يُدعى الأب جون جيوغان لفترة وجيزة، قبل أن يُطلق سراحه بهدوء عائدا إلى كنيسته. وبعد 27 عاما، وفي عام 2001، يتضح أن جيوغان قد تحرش بأكثر من 80 فتى صغيرا خلال فترة خدمته في الكهنوت.
ليبدأ البحث ببطء وعلى جبهات متعددة، للكشف عن المستندات الحساسة التي نجحت الكنيسة في دفنها، ويواصل مكارثي متابعة التحقيق بأسلوب سلس، حتى يدرك أن المسألة ليست فقط في الكشف عن "عدد قليل من التفاح الفاسد"، حيث يوجد 87 كاهنا على الأقل في منطقة بوسطن، من المحتمل أن يكونوا مجرمين، وهو ما يكفي للتعامل مع المشكلة كظاهرة نفسية خطيرة. وأيضا في إثبات وجود غطاء منهجي على أعلى مستويات الكنيسة، يمتد إلى قلب الفاتيكان نفسه.