[ على المتلقي الانفتاح على مصادر أخرى للخبر وعدم الاعتماد على مصدر واحد (غيتي) ]
فتح التطور التقني والوعي العام بأهمية الإعلام وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي؛ الباب على مصراعيه أمام انتشار المنصات الإعلامية وازدياد عددها بشكل كبير، وصارت عشرات الأخبار يوميا من شتى الألوان والمجالات تقع بين يدي القارئ أو المشاهد.
ومن هذا ما يكون انتشاره لأسباب سياسية أو أجندات موجهة، ومنها ما تكون غاياته ترويجية اقتصادية أو غوغائية عبثية، ومنها ما يتضمن أخطاء ويقع في صياغته الخلل؛ كل هذا قد يضللك ويوصل إليك غير الحقيقة، إن لم يتسبب بضرر أكبر من ذلك.
فكيف يستطيع القارئ أو المشاهد تجنب تضليل بعض وسائل الإعلام، سواء كان هذا التضليل غشا متعمدا أو خطأ مهنيا غير مقصود؟ هذه بعض المهارات التي تساعد على ذلك:
1. تحلَّ بالشك
يجدر بالعاقل ألا يتلقى كل خبر بالتصديق المطلق، خاصة إذ كان خبرا مهما أو خطيرا، كما أن عليه أن يقدر حجم الاهتمام به والتغطية المرافقة له، وأن يلاحظ مدى منطقيته وانسجامه مع ملامح العصر ومقتضياته.
فلا يمكن مثلا اكتشاف علاج جديد لعدة أنواع من السرطان ثم لا تجد خبرا عنه إلا في صفحة مجهولة على فيسبوك حتى لو تابعها الملايين، أو أن تجري دولة ما استفتاء على الإنترنت لوضع قانون مهم فيها وتترك المشاركة فيه مفتوحة لكل من يصله الرابط.
والمقصود هنا أن يمحّص المرء ما يقرأ أو يسمع، ولا يعني ذلك أن يصاب بوسواس التشكيك ورهاب الافتراء، بل أن يكون كوصف المغيرة بن شعبة لعمر بن الخطاب: "له عقلٌ يمنعه أن يُخدَع".
2. تحقق من المصدر
تعتمد كثير من عمليات التضليل الإعلامي على إخفاء مصدر المعلومة أو إبهامه، متهربة من ذكره بالتعتيم أو التعميم، كأن تقول "ذكر خبراء" أو "أثبتت دراسات" أو "صرّح مسؤولون"، دون أن تسمي هؤلاء الخبراء أو المسؤولين، أو توضح من الذي أجرى هذه الدراسة وأين نشرت؟
لذلك، قد يحتاج القارئ أحيانا أن يراجع المصدر الأصلي، فإذا كان الخبر منقولا مثلا عن منظمة الصحة العالمية أو وزارة خارجية دولة ما، فإنه يكون غالبا منشورا على موقعها الإلكتروني أو معرّفاتها في وسائل التواصل الاجتماعي، وهنا تظهر أهمية أن يكون لك حساب على تويتر حتى إن لم تكن من المواظبين على التغريد.
3. كن واعيا للأجندات
كثير من المنصات الإعلامية هي منابر لدول أو أحزاب أو تيارات تحتضنها، وإن لم تذكر ذلك صراحة فإنه يكون معروفا لاقتراب خطها التحريري منها. لذلك؛ كن حذرا من التوجيهات والأجندات الخفية.
وليس مستغربا أن تمرر فضائيات الدول أخبارا تؤذي خصومها، أو تسكت عما يضرها أو يزعج حلفاءها، فقد تحتفي بعض الصحف مثلا بخبر يسيء للمهاجرين، أو تضخم بعض المواقع قيمة دراسة عن الشواذ، أو غير ذلك مما على القارئ أن يفهمه في سياق الوسيلة الإعلامية التي أوردته.
ووجود أجندة للوسيلة الإعلامية لا يعني بالضرورة أن الخبر الذي تورده مطعون فيه، لكن قد تتدخل فيه الصياغة الصحفية من التركيز على زاوية بعينها، أو إغفال/إخفاء بعض التفاصيل والخلفيات، أو الاجتزاء من السياق وتغييره؛ أو غير ذلك مما يكوّن انطباعا لدى القارئ مخالفا للحقيقة، وإن كان نص الخبر ذاته ليس كاذبا.
4. قارن مع طرف ثالث
ولأن سماع الرواية من الطرف الثاني ستدخلك في دوامة "أيهما أصدّق؟" فيفضل أن تتجه إلى طرف ثالث محايد، وربما رابع وخامس وسادس -بحسب أهمية الموضوع- ممن لا تكون أجندته الخاصة مؤثرة في الخبر الذي تبحث فيه.
الأحداث المهمة غالبا لا تنفرد بتغطيتها منصة واحدة حتى لو حققت فيه سبقا صحفيا وكانت أول من ينشره، فإن التنافس بين المنصات الإعلامية يجعلها تحاول التفوّق على بعضها بعضا في التحقق من الحدث وتفاصيله وإيضاحاته، وسماع آراء محللين متنوعين له؛ وهذا التنافس سيصب في فائدة المتلقي، فلا تحرم نفسك منها.
5. لا تغتر بالعناوين
ومن أساليب الإثارة والجذب أن "تجعل من الحبة قبّة"، وهو ما تتجه إليه كثير من العناوين بحيل متنوعة، كإثارة سؤال أو تحدٍّ، أو استخدام كلمات تفيد الغموض كالسرّ والسبب والحقيقة، أو اجتزاء النص والإيهام بمعنى غير المقصود، أو الإغراب، أو غير ذلك مما يثير الفضول.
ولا يعد كل هذا تضليلا، بل إن بعضه من مهارات العمل الصحفي المطلوبة، لكن التضليل يكون حين يتعمد العنوان أن يوحي بشيء غير المضمون، وهذا يقع كثيرا عمدا أو خطأ.
لذا، عندما ينقل لك العنوان تصريحا أو يخبرك بنتيجة، فاحرص على أن تقرأ تفاصيل الخبر، وأن تتحقق من النتيجة، ولا تنخدع بأن الكتاب يُعرَف من عنوانه، فكثيرا ما يوضع العنوان ساخنا ليخفي برودة الموضوع.
كأن يتحدث العنوان عن "اتهامات خطيرة"، في حين يكون المضمون عاديا لا خطورة فيه، أو "أغرب كذا" ويكون طبيعيا لا غرابة فيه، أو "أهم كذا" ويكون غيره أهم منه، أو "الكشف عن اتصالات" وليس فيه أي كشف، بل هي اتصالات معلنة أصلا... وغير ذلك الكثير.
6. تحقق من العناصر
لكل لون من الألوان الصحفية عناصر لازمة يمكن أن يلاحظها المتابع بشيء من التدقيق حتى لو لم يكن متخصصا؛ فالخبر مثلا يجب أن يجيب عن الأسئلة الستة المعروفة: ماذا حدث، وكيف، ومن الذي قام به، وأين وقع، ومتى، ولماذا أو ما السياق الذي وقع فيه.
فالصحفي الجيد لا بد أن يتطرق لهذه الأسئلة، حتى لو كانت إجابتها غير معروفة، فيقول إن من قام بالهجوم -مثلا- مجهولون، أو لم يتحدد مكان اللقاء أو زمانه، أو لا يعرف سبب إلغاء الحفل.
وقد يتم تجاهل أو إخفاء بعض هذه العناصر بهدف صرف انتباه القارئ عنها، مثل ألا يذكر -مثلا- أن الاجتماع وقع في إسرائيل، أو أن إلغاء الحفل تم بطرد الضيوف منه، أو أن التفجير كان في منشأة عسكرية، أو أن الاختطاف تم ردا على اعتقالات؛ فرغم أن ما جاء في الخبر ليس كذبا، لكن ما أخفاه يغير دلالة القصة والحكم عليها.
ويلزم ألا يقتصر التقرير الصحفي أو البرنامج الحواري على رأي واحد، فإن لاحظت أنه لم يحاور إلا طرفا واحدا -حتى لو تعدد أشخاصه- ولم يناقش الرأي الآخر أو يسمع صوتا محايدا، فربما يحاول أن يحشو رأسك بوجهة نظر واحدة، ويصرفك عما يخالفها؛ فاحذر.
وكذلك الأمر في جميع الصنوف الصحفية، التي من الفائدة أن يكون المتابع متنبها لها، عارفا بأساسيات العمل الصحفي المهني الموضوعي.
7. اعزل الأحكام والأوصاف
تعمد وسائل الإعلام الموجهة إلى تكريس أجندتها وتمرير أحكامها القيمية في ما تنشره، ويتضح هذا في أوصاف مثل: إرهابيون ومقاومون وثائرون ومخربون، وبعضها -وهذا مما يكثر- تتهاون في إطلاق الأحكام، مثل: أشهر ممثل وأفضل كاتب وأهم إنجاز وأحسن طريقة وأجمل فيلم وأخطر اختراع.
ولا نتكلم هنا عمّا يكون معتمدا على مسابقة أو تقييم ما، كأن ينال جائزة "أفضل لاعب"، أو يحقق الفيلم "أعلى مشاهدات"، أو يكون الكتاب هو "الأكثر مبيعا"، فهذا يظل في إطار الموضوعية لأن معياره واضح، حتى لو وقع خلاف في صدقية هذا المعيار.
ومع ذلك، فإن تجنب التضليل والانخداع يقتضي منك عزل هذه الأحكام القيمية، فليس الخبر في أن الذين استولوا على المنطقة إرهابيون أم ثوار، لكن في أن هذه المنطقة باتت في حوزتهم، ولتسمهم كل وسيلة بحسب أجندتها، وسمّهم أنت بحسب معاييرك القيمية.
ومهما كان أسلوب صياغة الخبر محببا أو مزعجا، احرص على ألا تتأثر بما قد يتضمنه من مبالغات وأحكام وتعميمات ومجازفات، فغالبا تكون هذه محل شك.
8. احترم التخصص
قد يسهل الوصول إلى الخبر، لكن المتخصص يظل أقدر على تقييمه ومعالجته وبيان أهميته، لذلك فإن الخبر الطبي مثلا ترتفع مصداقيته إذا كان في موقع طبي، والتقني يُتوقع -ولا يشترط طبعا- أن يكون أكثر دقة في المواقع المختصة في شؤون التقنية.
وتستضيف الفضائيات خبراء لتحليل الأحداث، وهنا يجب أن تنتبه لتخصص المتحدث ومدى ملاءمته للموضوع، فتفرّق بين الخبير العسكري والمحلل السياسي والباحث والمحاضر والكاتب الصحفي والسياسي والاقتصادي والتقني وشاهد العيان، وغيرهم.
ليس بالضرورة أن يكون كلام المتخصص أصوب من غيره، فهذا إطلاق لا يصح في كل حال؛ لكن التخصص والقرب من الحدث يعطي غالبا مصداقية أكبر، حري بك أن تلاحظها.
وكذلك وسائل الإعلام المتخصصة، يُتوقّع أن تكون أكثر دقة وشمولا وأحسن طرحا وتحليلا للقضايا والموضوعات التي تتخصص فيها.
9. كوّن شبكة مصداقية
مهما كنت ماهرا في قراءة الأخبار وتمحيصها، فإن أهم نصيحة للوصول إلى الخبر السليم هي تلقيه من مصدر موثوق، ولذلك كان أول ما بحث فيه علماء الحديث (الخبر) هو مصداقية الراوي وكفاءته.
ولا يكفي الاعتماد على منصة إعلامية واحدة حتى لو كانت في غاية المصداقية، فإن العمل الصحفي يرد عليه الخطأ وتتفاوت فيه نباهة المحرر والقدرة على الوصول إلى المعلومة، فضلا عن التسييس والتوجيه اللذين لا تكاد تخلو منهما وسيلة إعلامية.
لذلك ينبغي أن تبني لنفسك شبكة من منصات الإعلام قد جربتها واختبرتها -لا بناء على السمعة فقط- في مجالات مختلفة، تكون مورد أخبارك وإليها ترجع للتحقق مما وردك من خارجها، مراعيا ما سبق للتحقق من المهنية والموضوعية.
وعلى أهمية هذه النصائح المتنوعة وغيرها، فإن الأهم منها أن تكون نفسُك متقدة بجذوة "الحقيقة"، تطلبها وتبذل الجهد في الوصول إليها حتى إن كانت خلاف رغبتك، وترفض الزيف وتأنف الغش حتى لو كان موافقا لهواك.