أن تنفي إيران ما أوردته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية (إيران ضغطت على السلطات السودانية للسماح ببناء قاعدة بحرية دائمة على ساحل البحر الأحمر، مقابل إرسال إيران سفينة حربية وأسلحة لدعم القوات المسلحة السودانية في قتالها ضد قوات الدعم السريع)، فهذا فعل طبيعي نظرا لسرية وخطورة وأهمية المطلب الإيراني.
وأن تنفي السودان ما أوردته الصحيفة الأمريكية، فهذا أمر طبيعي أيضا حتى لا تُحرج إيران التي تربطها معها علاقات جيدة جدا منذ سنوات طويلة، خصوصا في الجانب العسكري.
غير أن النفيين، الإيراني والسوداني، لا يلغيان على الأغلب حقيقة ما أوردته الصحيفة الأمريكية لأربعة أسباب رئيسية:
الأول، ثمة محاولات إقليمية لاستغلال الحرب المستمرة في السودان منذ نحو سنة وانعكاساتها الاقتصادية الكارثية للحصول على موطئ قدم في بلد يعد مفترق طرق استراتيجي بين الشرق الأوسط وجنوب الصحراء الكبرى الأفريقية مع ساحل البحر الأحمر الذي يبلغ طوله في الجزء السوداني نحو 853 كلم والسودان.
الثاني، أن السودان بدت منذ سنوات مهيأة ـ نتيجة الأوضاع الاقتصادية ولاحقا السياسية ـ لفتح أراضيها لحضور أجنبي كما هو حال الصومال وجيبوتي، وقد بدأت تركيا عام 2017 فعلا بإجراء مفاوضات مع الخرطوم لبناء قاعدة تركية لإعمار وإدارة جزيرة سواكن الواقعة على البحر الأحمر، ضمن اتفاقيات عدة جرت بين البلدين لرفع مستوى التبادل التجاري، لكن الاتفاقية أوقفت بعد الإطاحة بحكم الرئيس عمر البشير.
الثالث، رغبة إيرانية قديمة في الحصول على موطئ قدم في البحر الأحمر، خصوصا منذ اندلاع ثورات "الربيع العربي"، ثم زاد الاهتمام الإيراني بساحل البحر الأحمر بعد ظهور الحوثيين كقوة عسكرية في اليمن وسيطرتهم على القسم الشمالي الغربي من البلاد المطل على البحر الأحمر.
وكان رئيس القيادة المركزية في الجيش الأميركي عام 2016، جوزيف ووتل، قد اتهم إيران بلعب دور في الهجمات على السفن الحربية الأميركية قرب المياه اليمنية لصلاتها بالحوثيين.
لكن، هذه الرغبة في الوصول إلى البحر الأحمر أصبحت مضاعفة لدى طهران بعد عملية المصالحة الإيرانية الخليجية، وعدم رغبة طهران في توتير مياه الخليج إلا إذا اقتضت الضرورة الملحة، ومن هنا يشكل البحر الأحمر قاعدة خلفية للخليج يمكن لإيران المناورة فيها دون أن تتأثر علاقتها بدول الخليج سلبا.
إن وصول إيران إلى ممر بحري استراتيجي خارج مجالها الإقليمي الحيوي عبر إقامة قاعدة عسكرية في البحر الأحمر، لا يعني مسألة سهولة وصول الإمدادات العسكرية إلى الحوثيين في اليمن فحسب، بل الأهم السماح لطهران بالقدرة على التدخل السريع في هذه المنطقة إن اقتضت الضرورة، فضلا عن قدرتها في إرباك أي تحرك غربي عموما وأمريكي خصوصا، هذا ناهيك عن اقترابها من إسرائيل من الناحية الجنوبية.رابعا، التدخل العسكري الحوثي في البحر الأحمر منذ العدوان الإسرائيلي الإجرامي على قطاع غزة عقب عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر الماضي، ومحاولتهم عرقلة سلاسل الإمداد البحرية، ثم المواجهة العسكرية الأولى بينهم وبين البحرية الأمريكية، وإرسال إيران مدمرة "ألبرز" القتالية برفقة سفينة "بهشاد" العسكرية، كرد على ما وصفته طهران محاولات غربية لعسكرة البحر الأحمر، ومنع أية محاولة أمريكية لضرب الحوثيين في اليمن.
إن وصول إيران إلى ممر بحري استراتيجي خارج مجالها الإقليمي الحيوي عبر إقامة قاعدة عسكرية في البحر الأحمر، لا يعني مسألة سهولة وصول الإمدادات العسكرية إلى الحوثيين في اليمن فحسب، بل الأهم السماح لطهران بالقدرة على التدخل السريع في هذه المنطقة إن اقتضت الضرورة، فضلا عن قدرتها في إرباك أي تحرك غربي عموما وأمريكي خصوصا، هذا ناهيك عن اقترابها من إسرائيل من الناحية الجنوبية.
كما أن الحضور العسكري الإيراني في البحر الأحمر من شأنه أن يدفع الولايات المتحدة للتفكير مليا في التحالف الأمني الذي اقترحت بعض الدول الغربية تشكيله في البحر من أجل وقف هجمات الحوثيين على السفن.
هكذا، تستطيع إيران توسيع دائرة الاشتباك الجغرافي من الخليج العربي إلى البحر الأحمر (السودان) فالبحر المتوسط (سوريا، لبنان، غزة)، يساعدها في ذلك قدرات عسكرية بحرية: غواصات روسية صغيرة تتمتع بميزة الحركة السريعة والمناورة، صواريخ مضادة للسفن تتميز بقدرتها على التعرض لحاملات الطائرات، أسلحة باليستية بعيدة المدى من طراز "سكود" برؤوس قادرة على حمل أسلحة كيماوية وبيولوجية، 25 غواصة، ثمان فرقاطات، ثلاث كورفيتات، 10 سفن برمائية هجومية، 21 زورق دورية.
لا يعني كل ذلك أن البحر الأحمر سيتحول إلى مواجهة عسكرية إيرانية مع الغرب، فهذا ليس هدف إيران التي نجحت طوال العقود الثلاثة الماضية في استخدام سياسة حافة الهاوية بمهارة عالية، في لبنان، والعراق، وسوريا، واليمن، والخليج، وأفغانستان.
ما يهم طهران في المقام الأول تأكيد مقدراتها الاستراتيجية في المنطقة أمام الغرب وخصوصا الأمريكي، بحيث تكون اللاعب الأقوى في المنطقة وباعتراف غربي.
لهذا السبب، تتكثف الدبلوماسية الأوروبية في العلن والأمريكية في الكواليس لضبط إيقاع الصراع، والحيلولة دون انهيار الأمن الإقليمي بما يؤدي إلى رفع التكاليف الاقتصادية للمصالح الأمريكية.
دبلوماسية طالما خبرت السلوك الإيراني على مدار عقود خلت، ونجحت في أحيان كثيرة بإيجاد لغة سياسية مشتركة مع أصحاب العمائم في إيران، تبقي على سياسة حافة الهاوية، لكن دون السقوط فيها.
وهكذا، بين استراتيجية إيرانية تقوم على استغلال الأزمات الاستراتيجية في المنطقة والعمل بسرعة على ملء الفراغ دون الوقوع في مصيدة الحرب المباشرة مع أي طرف، وبين استراتيجية أمريكية تتعامل مع إدارة الأزمات لا الانخراط فيها، ستبقى العلاقة الإيرانية مع الغرب قائمة على كباش سياسي مع تجسيدات عسكرية غير مباشرة.