شهد هذا الأسبوع عديداً من البيانات والأرقام الرسمية وشبه الرسمية تشير إلى وضع اقتصادي عالمي ليس بالجيد في أقل تقدير، وفي التقدير المتوسط وضع متراجع أو حتى متدهور بدرجة أو بأخرى، فهناك بلدان من دول مجموعة السبع الغنية دخلاً تعيش في ركود منذ النصف الثاني من العام الماضي هما اليابان وبريطانيا، ويمكن أن تلحق بهما ألمانيا، أكبر اقتصاد في دول منطقة اليورو. وبدأت دول ومؤسسات في خفض توقعات النمو لعدد من البلدان والمناطق الاقتصادية، إذ خفضت المفوضية الأوروبية في نهاية الأسبوع توقعاتها لنمو الناتج المحلي الإجمالي لدول منطقة اليورو لهذا العام والعام المقبل أيضاً، في حين أشار صندوق النقد الدولي إلى خفض توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي، بخاصة اقتصاد منطقة الشرق الأوسط، عن توقعاته السابقة.
ومع أن تلك التطورات بدأت تتفاعل في الاقتصادات المعنية ربما قبل بداية الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلا أنه لا يمكن استبعاد تأثير الحرب والمخاوف من اتساعها، إضافة إلى استهداف الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن السفن والناقلات التي تمر عبر البحر الأحمر.
في البداية كانت تقديرات غالب المؤسسات والبنوك الاستثمارية وشركات الاستشارات وتحليل المعلومات أن الحرب في غزة لن يتسع نطاقها إلى حرب شاملة في المنطقة، من ثم تظل الأخطار في شأن تضرر إمدادات النفط قليلة جداً أو منعدمة، وبنت كل تلك الجهات توقعاتها على أساس هذا السيناريو.
اضطرابات البحر الأحمر
حتى بعدما بدأ الحوثيون استهداف ومهاجمة السفن والناقلات التي تستخدم الممر الملاحي الدولي ما بين باب المندب وقناة السويس، لم تعدل غالب تلك الهيئات والمؤسسات تقديراتها إلا بشكل طفيف، بعدما بدأت الولايات المتحدة وبريطانيا قصف مواقع للحوثيين في اليمن مع زيادة المخاوف من احتمال التصعيد أكثر في المنطقة.
استندت تلك التقديرات والسيناريوهات إلى حقيقة أن النسبة الكبرى من نفط الخليج الذي يخرج عبر مضيق هرمز، تتجه إلى آسيا شرقاً بعيداً من خليج عدن وممر البحر الأحمر، وأن النفط المتجه إلى أوروبا فقط هو الذي يمر من البحر الأحمر.
صحيح أن نسبة الثلث تقريباً من النقل البحري بسفن الحاويات يمر عبر البحر الأحمر، وعرقلته تضر بالتجارة بين آسيا وأوروبا، إلا أن لجوء شركات النقل البحري إلى طريق رأس الرجاء الصالح مثل حلاً موقتاً، وإن كان مكلفاً ومعطلاً.
لا يعرف بعد مدى تأثير ذلك التأخير وارتفاع الكلفة على الأسعار ومعدلات التضخم، بخاصة في أوروبا، إلا أن شركة "أس أند بي غلوبال" التابعة لمؤسسة "ستاندرد أند بورز" للتصنيف الائتماني أشارت في تقرير لها، إلى أن أزمة البحر الأحمر بدأت بالفعل في التأثير في الأسعار في أوروبا، وأن ذلك يتجاوز أسواق الطاقة ليطاول أسعار الغذاء والسلع الاستهلاكية في القارة الأوروبية.
وفي تقرير آخر، أشارت شركة "أس أند بي غلوبال كوموديتي إنسايتس"، التابعة أيضاً لمؤسسة التصنيف الائتماني العالمية، إلى أن كلفة الشحن من الخليج العربي إلى البحر المتوسط بلغت أعلى مستوياتها خلال أربعة أشهر في مطلع فبراير (شباط) الجاري. ويرفض عدد من شركات الشحن عبور البحر الأحمر، ويفضلون سلوك المسار الأطول والأعلى كلفة حول رأس الرجاء الصالح.
وبدأ ظهور تبعات أزمة البحر الأحمر في بعض أسواق النفط، مع تراجع الشحنات المتجهة إلى أوروبا في الأشهر الماضية، وارتفاع كلفة التأمين الإضافي على السفن التي تعبر البحر الأحمر بنحو دولار للبرميل، غير أن التأثير تجاوز أسواق الطاقة بصورة كبيرة، ليطاول سوق تجزئة الأثاث في أوروبا، التي تعتمد بصورة كبيرة على آسيا في التصنيع، وكانت المقاعد والأرائك والأسرة والمصابيح الأشد تضرراً من أزمة البحر الأحمر، وفق ما ذكر التقرير.
احتمالات اتساع الصراع
مع طول أمد الحرب، واحتمالات التصعيد المتزايدة في الجبهة الشمالية مع لبنان والتصعيد في البحر الأحمر، بدأت التوقعات والتقديرات تختلف، وتحذر من احتمالات زيادة الضرر على الاقتصاد العالمي.
يميل تقرير معهد التمويل الدولي إلى حد التشاؤم لاحتمال ارتفاع أسعار النفط بنسبة 40 في المئة وانكماش (نمو بالسالب) اقتصاد المنطقة بنسبة 0.6- في المئة. وبحسب تقرير المعهد، فإن تبعات هذا التصعيد المحتمل للصراع في المنطقة قد تطاول الاقتصادين العالمي والإقليمي، وتتجلى في ارتفاع أسعار النفط والسلع، وزيادة التضخم، وسيؤدي ذلك إلى خفض النمو الاقتصادي العالمي في نهاية المطاف.
وفي السيناريو الأسوأ الذي تضمنه تقرير معهد التمويل الدولي، فإنه "في حالة اتساع الحرب سينخفض معدل النمو العالمي إلى 2.4 في المئة في العام الحالي 2024، نتيجة زيادة اضطرابات الشحن عبر قناة السويس ومضيق هرمز، بخاصة إذا بدأت إيران أو أحد وكلائها استخدام النفط سلاحاً من خلال وقف الشحنات المارة عبر المضيق، الذي يمر عبره نحو 30 في المئة من استهلاك النفط العالمي".
ويقدر ذلك السيناريو انكماش اقتصاد المنطقة بنسبة 0.6- في المئة، وسيصيب الاقتصاد اللبناني الضرر الأكبر. وأضاف التقرير أن "حرباً إقليمية أوسع يشارك فيها (حزب الله) يمكن أن تؤدي إلى تدمير ما تبقى من اقتصاد لبنان، فيما سيلحق أضراراً جسيمة بالبنية التحتية الإسرائيلية، مما يؤدي إلى انكماش اقتصاد لبنان بنسبة 20- في المئة في الأقل، واقتصاد إسرائيل بنسبة 4.5- في المئة هذا العام".
على رغم صعوبة توقع مقدار وفترة الزيادة في أسعار الطاقة، قدر التقرير ارتفاع أسعار النفط والغاز بنحو 40 في المئة خلال العام الحالي 2024، ليبلغ سعر النفط 120 دولاراً للبرميل، فضلاً عن الزيادة الكبيرة في كلفة الشحن والتأمين، مما سيسبب ضغوطاً تضخمية في فترة لا يزال معدل التضخم فيها أعلى من مستهدفاته. وسيتراجع معدل نمو التجارة العالمية إلى 0.8 في المئة فقط، نتيجة استمرار الهجمات على سفن الشحن، مما سيرفع معدل التضخم أيضاً.