[ عمال يستخرجون النفط من آبار في حوض بيرميان الأميركي (Getty) ]
تستفيد صادرات النفط الأميركية من التغيرات الحاصلة في خريطة الإمدادات العالمية، بسبب التوترات المتصاعدة في البحر الأحمر، والتي دخلت واشنطن كطرف رئيسي فيها.
وباتت الإمدادات الأميركية حيوية بالنسبة لأوروبا التي وجهت بوصلتها إلى مصادر بديلة بعيدة عن التوترات، ما يزيد ارتهان القارة العجوز إلى الولايات المتحدة التي تحولت أيضاً إلى المصدر الرئيسي لإمدادات الغاز الطبيعي المسال بعد انقطاع معظم الإمدادات الروسية عقب الغزو الروسي لأوكرانيا قبل عامين.
تظهر بيانات تتبع شحنات النفط وتصريحات متعاملين في السوق تراجع الواردات الأوروبية من النفط الخام من الشرق الأوسط الذي أصبح فجأة يمثل صداعاً للشراء، بينما اتجهت نحو الغرب وزادت مشترياتها من النفط الخام الأميركي وأيضاً من غويانا في شمال أميركا الجنوبية.
يأتي هذا التحول في ظل انقسام يتبلور في أسواق النفط، بينما لا يستطيع أحد أن يخمن إلى متى سيظل هذا الانقسام قائماً في ظل استمرار التوترات في البحر الأحمر والتوقعات بتصاعدها في الفترة المقبلة.
وتتشكل منطقتان لتجارة النفط الأولى حول حوض الأطلسي، وتشمل بحر الشمال والبحر المتوسط، والأخرى تشمل الخليج العربي والمحيط الهندي وشرق آسيا.
عندما بدأ الحوثيون في اليمن بمهاجمة السفن الإسرائيلية وغيرها من الجنسيات الأخرى في البحر الأحمر المتجهة إلى إسرائيل تضامناً مع الفلسطينيين في غزة الذين يتعرضون لحرب إبادة من جيش الاحتلال الإسرائيلي وحصاراً مميتاً، بدا الأمر وكأنه مشكلة بسيطة، بخاصة أن الأمر اقتصر في البداية على ناقلات البضائع.
لكن مع تدخل الولايات المتحدة وبريطانيا وتوجيه ضربات للحوثيين بات الأخيرون أكثر تصميماً على مواصلة مهاجمة السفن، وفق تقرير لنشرة أويل برايس الأميركية المتخصصة في الطاقة.
وتتخذ الهجمات منعطفاً آخر عبر توسيع قائمة الدول التي يجري استهداف ناقلاتها، ولا سيما الأميركية والبريطانية الحاملة للنفط، ما زاد من عزوف سفن النفط والغاز عن عبور البحر الأحمر ومن ثم قناة السويس المصرية نحو البحر المتوسط وصولا إلى وجهات أوروبية وغيرها.
لم تضف الناقلات التي أعيد توجيهها حول أفريقيا بضعة أسابيع إلى أكثر من شهر إلى رحلاتها فحسب، بل أضافت أيضاً الملايين إلى الفاتورة النهائية للنفط. ولم يكن أمام أوروبا، التي تعاني من ضائقة مالية متزايدة، من خيار سوى البحث عن بدائل بأسعار معقولة لنفط الشرق الأوسط.
التخلي عن خام البصرة والتوجه نحو أميركا وغويانا
ففي كل أنحاء أوروبا، تخلت بعض شركات التكرير عن شراء خام البصرة العراقي الشهر الماضي، وفقاً لما ذكره متعاملون، في حين يقوم المشترون من القارة الباردة بشراء الشحنات من الولايات المتحدة وبحر الشمال وغويانا.
ووفق مذكرة لشركة كبلر المتخصصة في تحليل بيانات الطاقة وأسواق السلع، تراجع عبور ناقلات النفط في قناة السويس المصرية بنسبة 23% في ديسمبر/كانون الأول 2023 مقارنة بالشهر السابق له. وكان التراجع أكثر وضوحاً بالنسبة إلى غاز البترول المسال، الذي انخفض 65% والغاز الطبيعي المسال الذي هوى 73%.
وقال فيكتور كاتونا، كبير محللي النفط الخام في "كبلر"، إن "التحول نحو الشحنات الأسهل لوجستياً أمر منطقي من الناحية التجارية، وسيظل الأمر على هذا النحو طالما أن اضطرابات البحر الأحمر تبقي أسعار الشحن مرتفعة.. إنها عملية موازنة صعبة، حيث يتم الاختيار بين أمن الإمدادات وتعظيم الأرباح".
وقال جيوفاني ستونوفو، محلل السلع في بنك "يو بي إس" وفق ما نقلت وكالة بلومبيرغ الأميركية قبل يومين: "لا يزال التنويع ممكناً (بالنسبة لأوروبا)، لكنه يأتي بسعر أعلى.. ما لم يصل تأثير ذلك إلى المستهلك النهائي، فإنه سيُقتطع من هوامش مصافي التكرير" في أوروبا.
وبينما تتضرر شحنات النفط الأميركية التي كانت تتجه إلى آسيا من استمرار التوترات في البحر الأحمر بفعل هجمات الحوثيين، فإنها تجد ضالتها في أوروبا عوضاً عن ذلك، بل تزيد من تبعية أوروبا لإمدادات الطاقة الأميركية التي تركزت على مدار العامين الماضيين في الغاز المسال.
فقد أظهرت بيانات شركة كبلر، أن توريدات النفط من الولايات المتحدة إلى الهند توقفت في يناير/ كانون الثاني الماضي، مشيرة إلى أن مصافي النفط الهندية لم يصل إليها أي إمدادات منها، رغم أن الهند كانت تستورد من الشركات الأميركية نحو 205 آلاف برميل يومياً في المتوسط خلال عام 2023، بينما بلغ حجم التوريدات في ديسمبر/كانون الأول الماضي نحو 158 ألف برميل يومياً.
وفي ظل هذه التطورات ارتسمت ملامح الانقسام في الأسواق بين الشمال والجنوب، فبينما تزايد اعتماد أوروبا على النفط الأميركي وغيرها القادم من الغرب، تزايد اعتماد آسيا على نفط الشرق الأوسط.
فقد تحولت الشركات الهندية إلى استيراد النفط من منطقة غرب آسيا. وقد وصلت واردات النفط من العراق في يناير/كانون الثاني الماضي إلى أعلى مستوى لها منذ عامين، حيث بلغ حجمها 1.19 مليون برميل يومياً.
ويعتبر العراق ثاني أكبر مورد للنفط إلى الهند. وفي المركز الثالث السعودية التي بلغ حجم توريداتها الشهر الماضي 690 ألف برميل يومياً، منخفضا عن مستويات ديسمبر/كانون الأول، إذ كانت عند 706 آلاف برميل، وفق صحيفة "إينديان إكسبرس".
وازدادت التوريدات من الإمارات كذلك بنسبة 81% لتصل إلى 326 ألف برميل يومياً، لتحل رابعة بين موردي النفط إلى الهند. بينما تعتبر روسيا أكبر موردي النفط للهند حالياً، إذ صدرت لها 1.53 مليون برميل يومياً الشهر الماضي، بزيادة بلغت نسبتها 5.6% عن الشهر الأخير من 2023.
وتأتي توترات البحر الأحمر واحتمالات اتساع الصراع في الشرق الأوسط الحيوي لإمدادات النفط عالمياً، في وقت تشهد صناعة النفط العالمية تغيرات كبيرة في ديناميكيات الإمدادات، حيث تنتقل من المنتجين الرئيسيين في المنطقة إلى الولايات المتحدة ودول أخرى في حوض الأطلسي.
وتلعب صناعة البتروكيميائيات المزدهرة في الصين أيضاً دوراً محورياً في التأثير على الاستهلاك العالمي للنفط.
بينما يشكل الارتفاع المستمر في الإنتاج، إلى جانب تباطؤ نمو الطلب، تحديات أمام كبار المنتجين في منطقة الخليج العربي تحديداً الذين يسعون جاهدين لحماية حصتهم في السوق مع الحفاظ على أسعار النفط في حدود مقبولة لموازناتهم، وفق محللين في قطاع الطاقة.
من مستورد إلى أكبر منتج للنفط في العالم
ورغم أن أميركا لا تزال تعتمد على واردات النفط لتغطية احتياجاتها المحلية، إلا أنها تتوسع في التصدير في خطوة ينظر إليها لوضع قدمها في الأسواق للسيطرة على الأسعار، وفي الوقت نفسه أن يكون لهذه الإمدادات طابع سياسي.
وشهدت الولايات المتحدة نمواً غير متوقع في إمدادات النفط في عام 2023، ومن المتوقع أن تصل إلى مستوى قياسي جديد العام الجاري. وتنتج الولايات المتحدة الآن أكثر من أي دولة أخرى على الإطلاق، وتتجه نحو زيادة مستمرة على المديين القصير والمتوسط.
ووفق تقرير صادر عن إدارة معلومات الطاقة الأميركية في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، من المتوقع أن يرتفع إنتاج الولايات المتحدة من النفط الخام في 2024 إلى أكثر من 13.1 مليون برميل يومياً، بينما بلغ الإنتاج نحو 12.92 مليون برميل العام الماضي، بزيادة تبلغ 8.5% عن العام السابق له.
وكان 2023 هو العام الثاني على التوالي الذي يشهد إنتاج النفط الخام خلاله نمواً بعد زيادة بنسبة 5.7% أو 600 ألف برميل يومياً خلال 2022.
ويعكس النمو ارتفاع إنتاج النفط الصخري، حيث تم تشجيع المنتجين على زيادة الإنتاج الذي وصل إلى مستوى قياسي خلال 2023، عند 9.7 ملايين برميل يومياً في المتوسط مقابل 8.9 ملايين برميل يومياً في العام السبق له، وفق بيانات "بلومبيرغ".
وبلغ الإنتاج من حوض بيرميان وحده الواقع في غرب تكساس وشرق نيو مكسيكو نحو 5.9 ملايين برميل يومياً مقابل 5.4 ملايين برميل يومياً في 2022.
في المقابل شهدت السعودية، العضو الأساسي في منظمة البلدان المصدرة للبترول "أوبك"، إنتاجا بنحو 10.2 ملايين برميل يوميا في النصف الأول من عام 2023، ومع تبني الرياض نهجاً طوعياً لخفض الإنتاج لتحقيق الاستقرار في الأسواق والمحافظة على الأسعار، وصل متوسط الإنتاج إلى نحو 9 ملايين برميل يومياً في النصف الثاني من العام، وفق بيانات أوردتها نشرة "أويل برايس" أخيراً.
وحلت روسيا ثالثة في ترتيب القائمة، بنحو 9 ملايين برميل يومياً من النفط الخام، والتي تعتبر حليفاً أساسياً للسعودية فيما يعرف بتحالف "أوبك+" الذي يضم دول أوبك وكبار المنتجين من خارجها على رأسهم، فيما وصل إنتاج النفط الكندي إلى 4.86 ملايين برميل يومياً، وحلّ العراق خامساً، حيث حافظ ثاني أكبر منتج للنفط في أوبك على مرتبته بحوالي 4.3 ملايين برميل يومياً.
النفط الخام يتقدم الصادرات ويسير على خطى الغاز
ويؤدي ارتفاع الإنتاج الأميركي للنفط إلى زيادة صادرات الخام. إذ باعت الولايات المتحدة، في الفترة من يناير/كانون الثاني إلى سبتمبر/أيلول من العام الماضي، ما قيمته 86 مليار دولار من النفط في السوق العالمية، ليصبح بذلك منتج التصدير الرئيسي لها لأول مرة منذ عام 2009، وفق بيانات صادرة عن هيئة الإحصاء الفيدرالية الأميركية في ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
وفي الفترة من عام 2009 إلى عام 2021، كانت منتجات التصدير الأميركية الرئيسية للولايات المتحدة تتمثل في الطائرات والمنتجات البترولية المكررة.
وشغلت الطائرات المركز الأول في عامي 2009 و2010، وكذلك ست سنوات من 2015 إلى 2020، وشغلت المنتجات النفطية المركز الأول في السنوات المتبقية.
لكن الوضع تغير في 2022، عندما أزاح النفط، الطائرات من المركز الثاني لأول مرة، وفي 2023 أزاح النفط الخام المنتجات البترولية من الصدارة، بينما كان النفط الخام قد دخل لأول مرة، ضمن المراكز الخمسة الأولى للصادرات في عام 2018.
وبعد أسابيع قليلة من بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أعلنت شركات النفط الأميركية الكبرى عن تكثيف مساعيها لزيادة الإنتاج في الولايات المتحدة.
فقد كشفت شركتا إكسون موبيل وشيفرون عن صفقات استحواذ ضخمة لشراء شركات أميركية، مما يعزز بصمة شركات النفط الأميركية الكبرى في سوقها المحلية للتنقيب عن الخام.
وقال محللون لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية أخيراً، إنّ "عصر شركات النفط الأميركية العملاقة التي تمتلك مجموعة متنوعة من الأصول المنتشرة في جميع أنحاء العالم قد انتهى".
ويأتي توسع صادرات النفط الخام الأميركي الذي يستفيد من توترات الشرق الأوسط، ليضاف إلى الغاز الطبيعي المسال الذي استفاد كثيراً من الحرب الروسية في أوكرانيا وتمدد في أوروبا التي لم يكن لديها بديل سوى الإمدادات الأميركية على الرغم من كلفتها الباهظة.
قبل 7 سنوات فحسب، لم تكن الولايات المتحدة ضمن قائمة الدول المصدرة للغاز الطبيعي المسال، مع اعتمادها على الاستيراد لتغطية الطلب المحلي.
لكن بنهاية العام الماضي، تجاوزت أميركا دولتي قطر وأستراليا لتصبح أكثر دول العالم تصديراً للغاز الطبيعي المسال، وسط توقعات باستمرار نمو الصادرات خلال الفترة المقبلة.
ووفق بيانات شركة إل إس إي جي لتحليل بيانات الطاقة، بلغت صادرات الولايات المتحدة من الغاز المسال نحو 88.9 مليون طن في 2023، بزيادة نسبتها 14.7% على أساس سنوي.
وظلت أوروبا الوجهة الرئيسية لصادرات الغاز الطبيعي المسال الأميركية. وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي وحده، صدرت أميركا نحو 5.43 ملايين طن، أو ما يعادل 61% من إجمالي صادراتها إلى أوروبا.