[ مقاتلون حوثيون يلوحون بأسلحتهم خلال احتجاج بعد الضربات الأميركية والبريطانية (فرانس برس) ]
تخشى الأسواق العالمية تحول المناوشات الحربية بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من جهة، والحوثيين في اليمن من جهة ثانية، إلى فورة اضطرابات في الممر الملاحي الحيوي للتجارة العالمية وحركة مرور نسبة مؤثرة من شحنات النفط والغاز المسال، ما يعيد شبح التضخم وأزمة سلاسل الإمداد إلى الأسواق العالمية.
ويدفع البنوك المركزية لإعادة حساباتها بشأن أسعار الفائدة التي كانت التوقعات تتجه إلى خفضها على خلفية تراجع موجات الغلاء في الأشهر الماضية.
وارتفعت أسعار النفط، أمس الاثنين، مع ترقب المتعاملين لاحتمال تعطل الإمدادات في الشرق الأوسط بعد ضربات شنتها قوات أميركية وبريطانية على أهداف لجماعة الحوثي المسلحة في اليمن يومي الجمعة والسبت الماضيين، لمنعها من مهاجمة السفن الإسرائيلية وغيرها من الجنسيات الأخرى المتجهة صوب إسرائيل قرب باب المندب في البحر الأحمر.
فيما استهدف الحوثيون، فجر أمس، المدمّرة الأميركية "يو إس إس لابون" بصاروخ مضاد للسفن في البحر الأحمر، في ما بدا رداً على الغارات التي شنتها واشنطن ولندن على مواقع لهم في اليمن.
وصعدت العقود الآجلة لخام برنت بما يعادل 2% إلى أكثر من 78.4 دولاراً للبرميل. كما تجاوز خام غرب تكساس الوسيط الأميركي 73.7 دولاراً للبرميل. وكان الخامان القياسيان قد قفزا أكثر من 2% الأسبوع الماضي ليلامسا أعلى مستوياتهما هذا العام.
وابتعد عدد من مالكي الناقلات عن البحر الأحمر وغيرت عدة ناقلات مسارها، منذ يوم الجمعة الماضي، بعد الضربات الأميركية والبريطانية ضد الحوثيين.
في الوقت الذي يراقب فيه المتعاملون رد فعل إيران وتأثيره على الشحنات في مضيق هرمز، أهم ممر للنفط في العالم. وهذا المضيق، طريق ملاحي ضيق في منطقة الخليج، ويشكل منفذ نفطه إلى العالم الخارجي، ويُلقّب بشريان الحياة للعالم الصناعي، ويعبر منه ثلثا الإنتاج النفطي الذي يستهلكه العالم.
وتضرر نحو 209 ناقلات بما يعادل 4% من أسطول شحن النفط العامل دولياً، من التصعيد الجاري في البحر الأحمر، مع استثناء ناقلات النفط التابعة لروسيا وإيران، أو تلك المتجهة إلى اليمن، وفق بيانات نقلتها وكالة بلومبيرغ الأميركية عن شركة "أويل بروكريدج" العاملة في مجال الوساطة في سوق الطاقة وتتخذ من لندن مقراً لها.
وكانت الناقلات من طراز "سويز ماكس" و"أفراماكس بعيدة المدى 2" الأشد تضرراً من الأزمة، بحسب ما نقلت الوكالة الأميركية عن أنوب سينغ، المدير العالمي لبحوث الشحن البحري لدى "أويل بروكريدج" في مذكرة صدرت يوم الأحد الماضي.
وأضاف سينغ: "بدأنا نلاحظ إبطاء السفن الأقرب إلى نقطة العبور وتحويل مسار كل السفن الأبعد مسافة"، وأبطأت 30 ناقلة سرعتها أو توقفت أو حولت مسارها منذ شن الغارات الأميركية والبريطانية.
ورغم أن تقييد العبور عبر مضيق باب المندب قد يعطل السفن الموجودة في البحر الأحمر عن أداء عملها لأجل غير مسمى، إلا أن السفن قد تتكدس في قناة السويس أيضاً إذا ظلت نقطة الخروج الجنوبية مغلقة لفترة طويلة، وفق المذكرة.
في الأثناء، أرجأت قطر مؤقتاً على ما يبدو إرسال ناقلات الغاز الطبيعي المسال عبر مضيق باب المندب، حيث امتنع ما لا يقل عن 5 ناقلات للغاز الطبيعي المسال تشغلها قطر كانت متجهة نحو الممر في الطرف الجنوبي من البحر الأحمر عن العبور منذ يوم الجمعة الماضي، وفقاً لبيانات تتبع السفن التي قالت بلومبيرغ إنها جمعتها، فيما توقفت 3 ناقلات أخرى مؤقتاً قبالة سواحل عمان، إحداها في البحر الأحمر والأخريان في البحر الأبيض المتوسط بالقرب من قناة السويس.
ونصحت قوة المهام العسكرية المشتركة، التي تضم القوات البحرية الأميركية والبريطانية، السفن التجارية بالابتعاد عن منطقة الخطر في جنوب البحر الأحمر بعد الضربات الجوية على الحوثيين.
لكن الحوثيين لم يهاجموا أي سفن تنقل الغاز منذ شروعها في مهاجمة السفن التي تركزت على الناقلات الإسرائيلية، وغيرها التي تبحر نحو الكيان المحتل منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. ويسلط إحجام قطر عن عبور الممر المائي الضوء على الزيادة الكبيرة في المخاطر بالمنطقة عقب الغارات العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة.
وكانت الدولة الخليجية، التي تعد واحدة من أكبر مصدري الغاز الطبيعي المسال في العالم، واحدة من عدد قليل من موردي الغاز الذين ما يزالون يستخدمون البحر الأحمر وقناة السويس لإرسال الوقود إلى أوروبا. فيما تفضل معظم ناقلات الغاز الطبيعي المسال الآن استخدام مسارات أطول.
وهدد الحوثيون، الأحد الماضي، "برد قوي وفعال" على الضربات الأميركية، ما ينذر بتصعيد التوتر في المنطقة ويلقي بظلال سلبية إمدادات الطاقة ومختلف السلع العابرة للبحر الأحمر، ما يؤدي إلى تأجيج نمو الأسعار في الوقت الذي يبدو فيه أن التضخم ينحسر، لا سيما في الدول الأوروبية والولايات المتحدة.
وكان الاقتصاديون يتوقعون أن يتم احتواء التأثير الأوسع نطاقاً على أسعار السلع نسبياً في الأشهر الماضية. ولكن المخاوف تتصاعد الآن بشأن التأثيرات غير المباشرة الأكثر أهمية على السلع الأساسية، بما في ذلك النفط، في حال تورط القوات الأميركية في صراع أوسع مع الحوثيين، ما يزيد من رقعة حرب إقليمية مستعرة منذ بدء عملية طوفان الأقصى والعدوان الإسرائيلي المدمر على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.
وقالت آنا بواتا، رئيسة أبحاث الاقتصاد الكلي في شركة "أليانز تريد" العالمية، إن الوضع لم يصل بعد إلى "العلامة الحمراء" بالنسبة للاقتصاد العالمي، لكنها أضافت لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية، أمس الاثنين، أن "التأثير على سلاسل التوريد العالمية يمكن أن يصبح أكثر حدة" إذا استمرت الأزمة.
ويعد البحر الأحمر ممراً ملاحيا تجارياً حيوياً، حيث يمثل عادة 15% من إجمالي التجارة البحرية العالمية، بما في ذلك 8% من الحبوب، و12% من النفط المنقول بحراً، و8% من الغاز الطبيعي المسال المنقول بحراً. ومنذ الهجوم الحوثي الأول في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني، تراجعت حركة المرور في البحر الأحمر بشكل كبير.
وأظهر أحدث مؤشر تجاري شهري، نشره معهد كايل للاقتصاد العالمي، الذي يتخذ من ألمانيا مقراً رئيسياً له، يوم الخميس الماضي، أنه في أعقاب هجمات الحوثيين، كانت تدفقات الحاويات عبر البحر الأحمر أقل من نصف المستوى المعتاد في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وانخفضت إلى أقل من 70% من الكميات المعتادة في أوائل يناير/كانون الثاني الجاري.
ومع الالتفاف حول أفريقيا (طريق رأس الرجاء الصالح) الذي يأخذ السفن من سبعة إلى 20 يوماً إضافية، أدى هذا إلى ارتفاع أسعار الشحن للحاوية القياسية المنقولة من الصين إلى شمال أوروبا من حوالي 1500 دولار في نوفمبر/ تشرين الثاني إلى أكثر من 4000 دولار.
وقد بدأت بعض الاقتصادات تشعر بالفعل بآثار ذلك. ومن المرجح أن تكون مصر واحدة منها، نظراً لاعتمادها على الشحن عبر قناة السويس، والتي جمعت ما يقرب من 9 مليارات دولار من رسوم العبور في السنة المالية الماضية المنقضية بنهاية يونيو/حزيران 2023.
وتبلغ الشركات أيضاً عن ضغوط ناتجة عن هذه الأحداث، فقد أعلن مصنع تسلا للسيارات الكهربائية الأميركية في ألمانيا عن وقف الإنتاج حتى 11 فبراير/شباط المقبل، لأنه يفتقد بعض المكونات نتيجة لأوقات الشحن الأطول حول رأس الرجاء الصالح. ويعد التعطيل كبيراً بما يكفي للولايات المتحدة وحلفائها لاتخاذ إجراء عسكري ضد الحوثيين.
ومنذ اندلاع الحرب بين جيش الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية، كان صناع السياسات الاقتصادية يشيرون إلى صراع أوسع نطاقاً في الشرق الأوسط باعتباره "خطراً صاعداً" رئيسياً على التضخم، الذي يبدو أنه يتراجع حالياً في الاقتصادات الكبرى.
ويؤكد محللون أن التعطيل المطول في البحر الأحمر سيكون أكثر خطورة. وقال توماس ويلاديك، كبير الاقتصاديين الأوروبيين في شركة "تي رو برايس" الاستثمارية الأميركية إن الشحن العالمي يتعرض لضغوط أيضا بسبب الجفاف في قناة بنما، مما أدى إلى انخفاض حركة العبور.
وأضاف ويلاديك أن هذا قد يجعل التهديد التضخمي أكثر وقعاً، لا سيما مع "تأثر اثنين من أهم ممرات الشحن في العالم في نفس الوقت". وأوضح: "لذلك من المحتمل أن تظل أسعار الشحن مرتفعة لبعض الوقت".
ويقول المحللون إن الخطر الأكثر حدة على التضخم هو أن أسواق النفط والغاز تشعر بالخوف من احتمال نشوب صراع أوسع نطاقا في الشرق الأوسط. فالقفزة التي شهدتها أسعار النفط أواخر الأسبوع الماضي، سلطت الضوء على المخاوف في الأسواق المالية من أن الرد الذي تقوده الولايات المتحدة قد ينذر بمزيد من المشاكل.
بينما كان انخفاض تكاليف الطاقة محركاً رئيسياً وراء انخفاض التضخم، لذا فإن أي انقطاع في هذا الهبوط من شأنه أن يمثل انتكاسة لجهود البنوك المركزية لكبح نمو الأسعار.
ويقدر توماس ويلاديك، كبير الاقتصاديين الأوروبيين في شركة "تي رو برايس" الاستثمارية الأميركية، أن ارتفاع أسعار النفط بنسبة 10% يمكن أن يرفع معدل التضخم في منطقة اليورو بنسبة 0.4% خلال عام واحد.
وتبدد الاضطرابات حالة الارتياح التي سادت الأسواق المستهلكة للطاقة من ارتفاع المعروض من خارج تحالف "أوبك+". وأقر الرئيس الأميركي جو بايدن للصحافيين، يوم الجمعة، بأنه "قلق للغاية" بشأن تأثير ما وصفها بالأعمال العدائية (هجمات الحوثيين) على أسعار النفط، مضيفا "لهذا السبب يتعين علينا وقفها".
وتأتي اضطرابات حركة نقل النفط عبر البحر الأحمر، بالتزامن مع اضطرابات في إنتاج النفط في ليبيا، إذ هدد محتجون بإغلاق منشأتين أخريين للنفط والغاز، بعد إغلاق حقل الشرارة الذي ينتج 300 ألف برميل يومياً في السابع من يناير/ كانون الثاني الجاري.
كذلك تستعد شركات الطاقة والغاز الطبيعي في الولايات المتحدة لموجة برد شديدة، من المتوقع أن تتسبب في طلب قياسي على الغاز مع خفض الإمدادات بسبب حالة التجمد التي أصبحت عليها الآبار.