يظل اليمن في ظل التطورات المتسارعة في الشرق الأوسط والتحولات في السياسة الخارجية للدول العربية، خاصة دول الخليج، حربا منسية وجامدة رغم مرور تسعة أعوام على بدئها وسيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء في 2014 والتدخل السعودي-الإماراتي في 2015.
وتذكر الحرب في هذا البلد في السياق عادة مع اتفاقية وقف إطلاق النار التي مضى عليها عامان، وهناك مساع أمريكية للحفاظ عليها والتوصل إلى حل دائم وتسوية للنزاع في اليمن. وبدا بعد سنوات من الحرب أن فرض حكومة على اليمن لم ينجح وما نتج عن الحرب مراكز قوى كل منها لديه مصالحه وداعميه من الخارج.
وتقول الولايات المتحدة التي يزور وفد كبير لها السعودية هذه الأيام، أنها تريد الضغط باتجاه وقف الحرب، حيث تحدث مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان في إفادة صحافية عن مساع أمريكية لتثبيت الهدنة وخاصة أن المبعوث الأمريكي لليمن تيموثي ليندربيرغ وباربرا ليف مساعدة وزير الخارجية وبريت ماكغيرك، منسق شؤون الشرق الأوسط في البيت الأبيض في السعودية لبحث التطبيع بين السعودية وإسرائيل والحديث في السياق عن اليمن.
بلد الدويلات
وبعد سنوات من الحرب لم يعد اليمن دولة واحدة بل دويلات متشرذمة. فالحوثيون يسيطرون على مناطق واسعة من شمال وغرب اليمن ويحظون بدعم من إيران والحكومة المعترف بها شرعيا تسيطر على مناطق وإن كانت محدودة إلى جانب المجلس الانتقالي الجنوبي الذي تدعمه الإمارات، وبالمحصلة هناك تسعة فصائل تتنافس على السلطة. وفي العام الماضي دعمت السعودية مجلسا رئاسيا للقيادة باعتباره الحكومة الشرعية، وبعد خروج عبد ربه منصور هادي من المشهد السياسي. ومن الناحية النظرية يزعم المجلس الرئاسي أنه يسيطر على كل اليمن.
ويظل مجلس القيادة الأقل ظهورا وتأثيرا على الأرض من بين كل الفصائل التي تحاول السيطرة على اليمن. وهو مقيد في الجناح الرئاسي بالمدينة الثانية لليمن، عدن في طرف اليمن الجنوبي أو يعيش اعضاؤه بالسعودية، وعادة ما يختلفون فيما بينهم.
وجاء المجلس صورة عن التناقض في مصالح الدول المتحالفة وخاصة الإمارات والسعودية، ما أدى لانهيار التحالف وسحب الإمارات قواتها، مع أنها لا تزال تسيطر على معظم موانئ الجنوب اليمني وتركز نظرها على آبار النفط إلى جانب قواعد عسكرية لها هناك. وهي تدعم المجلس الانتقالي الجنوبي بقيادة عيدروس الزبيدي، الجنرال السابق، وعضو المجلس المدعوم من السعودية. وردت هذه بدعم المقاطعات اليمنية القديمة والقبائل ضد دولة الزبيدي الانفصالية المحتملة. ويأملون برسم ممر شمال- جنوب إلى المحيط الهندي. كما ودعمت السعودية في الأشهر الماضية تشكيل «المجلس الوطني» في حضرموت و«تحالف القبائل» في شبوة التي تبعد 500 كيلومتر عن مقر الزبيدي في عدن. وخرجت التوترات للعلن وتحولت لعنف، وكلا الطرفين يحاول السيطرة على مدينة المكلا، وهي ميناء آخر في الجنوب.
لن يظل موحدا
وفي تقرير نشرته مجلة «إيكونوميست» (9/8/2023) تساءلت فيه إن كان اليمن سيحافظ على وحدته بعد سنوات من الحرب أو الحروب الأهلية. وقالت إن اليمن بات نهبا للكثير من الرهانات المحلية والإقليمية والدولية. فمع الفصائل المتصارعة، هناك مناطق في اليمن تقع تحت سيطرة أنصار القاعدة، والذي كان تنظيمها في اليمن من أقوى التنظيمات. وهناك حزب الإصلاح اليمني الناشط في تعز ومأرب وكذا محافظة المهرة القريبة من عمان التي لا تريد خسارة تأثيرها على اليمن لجارتها دول الخليج. ويظل التشرذم أو الانقسام هبة من السماء للحوثيين الذين كانوا قبل 20 عاما مجرد عصابة من المقاتلين في صعدة يختبئون في الجبال والمغاور بعيدا عن السلطة في صنعاء. أما اليوم فقد باتوا يهيمون على البلد، وتوحدهم الأيديولوجيا وأسلحة وتدريب إيران ووكيلها اللبناني، حزب الله، وتمسكوا بصنعاء ومناطق الشمال حتى ميناء الحديدة رغم سنوات من الهجمات المضادة التي شنها التحالف بقيادة السعودية. وردوا على القصف الدولي بإطلاق الصواريخ والمسيرات على السعودية بل والإمارات العربية المتحدة.
وتحاول السعودية الخروج من مستنقع اليمن، حيث وافق ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في آذار/مارس 2022 على الدعوة لوقف إطلاق النار. ومنذ ذلك الوقت حاول السعوديون كسب الحوثيين ورفعوا الحصار عن الحديدة وسمحوا للطيران من صنعاء وأرسلوا وفودا للتفاوض مع الحوثيين وبدون التشاور مع مجلس القيادة الرئاسي. وسمحوا للقيادة الحوثية السفر وأداء الحج بمكة، بل وعرضوا دفع رواتب إدارة الحوثيين. بل واقترح بعض مستشاري ولي العهد السعودي، عقد تحالف كامل مع الحوثيين، في أعقاب التقارب السعودي- الإيراني في آذار/مارس. إلا أن وقف إطلاق النار أشعر الحوثيين بأنهم انتصروا. ويقدم عبد المالك الحوثي، زعيم الحوثيين نفسه بأنه بأنه الإمام الحقيقي للأمة الإسلامية. وعندما وصل الوفد السعودي إلى صنعاء للتفاوض في نيسان/أبريل تم الاستهزاء بهم كمعتدين لا صناع سلام. وإزاء جرأة الحوثيين وشعورهم بالتفوق هناك مخاوف من أن تنهار الحكومة اليمنية ويبتلع الحوثيون ما تبقى من اليمن. ما يعني استمرار النزاع، ذلك أن الفشل في التقدم نحو السلام، ورغم الثقل الأمريكي هو التناقض في رؤى الأطراف المتصارعة، محليا وإقليميا. فمع أن أول خطاب ألقاه بايدن في شباط/فبراير 2021 دعا لإنهاء الحرب في اليمن واتخذ سلسلة من الإجراءات العقابية ضد السعودية، سيتراجع عنها لاحقا.
درس من الماضي
وكما كتب أشر أوكاربي بمقال نشرته مجلة «فورين بوليسي» (11/7/2023) فإن عدم التقدم من الطرفين المتحاربين نابع من اختلاف رغباتهم، فالسعودية التي دعمت الحكومة اليمنية لا تريد أن يهدد اليمن حدودها الجنوبية. وبالمقابل يرفض الحوثيون وقف إطلاق النار إلا حالة أوقفت السعودية ومن طرف واحد الحرب وسحبت قواتها وأنهت الحصار الجوي والبحري والتزمت بعملية تعويض طويلة لحكومة الحوثيين. وبالمحصلة تريد السعودية من الحوثيين التخلي عن السلطة، أما الحوثيون فيريدون من السعودية أن تقدم البلد إليهم على طبق من الفضة.
والمشكلة هنا أنه لا السعودية أو الحوثيين يملكان الشرعية المطلوبة للتقدم في التسوية، فوفد السعودية في نيسان/إبريل لم يستقبل أفراده عندما وصلوا إلى صنعاء لعقد محادثات كصناع سلام، وبدلا من ذلك صورهم إعلام الحوثيين كطرف في النزاع وتم وصف الحكومة اليمنية المدعومة من السعودية بأنه يتم التلاعب بها من حكومة أجنبية جارة شنت حربا لخدمة أهدافها. ولا يحظى الحوثيون بالشرعية نفسها، فمنذ سيطرتهم على السلطة عام 2015 أقاموا حكما ديكتاتوريا اتهموا بالقمع الواسع وخرق حقوق الإنسان إلى جانب الفساد المستشري والتمييز المفتوح. وأكثر من هذا، فقد قبل الحوثيون مثل الحكومة اليمنية دعم القوى الأجنبية مثل حزب الله اللبناني ودعما من الحكومة الإيرانية.
ويرى الكاتب أن هذه ليست المرة الأولى التي يجد اليمن فيها نفسه أسيرا للنزاعات الفصائلية والتدخلات الخارجية. ويشير إلى نموذج إنشاء الجمهورية في الستينات من القرن الماضي، الذي نبعت منه حكومة مستقرة وأنهت العنف وحظيت بالشرعية الشعبية. ولو أرادت الحكومة الحالية بالمنفى والمتمردون الحوثيون التوصل لتسوية، فعليهما التعلم من الدروس التاريخية هذه وشمل قادة يتمتعون بشرعية عظيمة في المحادثات بينهما. ففي عام 1962 عندما أطاح الثوريون اليمنيون بحكم الإمامة الزيدية وأعلنوا الجمهورية العربية اليمنية، دولة قومية عربية في الجزء الشمالي من اليمن المعاصر، وجدوا أنفسهم أمام أطراف معارضة من القبائل التي ظلت على ولائها للإمام المعزول، وهي من تدعم الحوثيين اليوم. وعندما لم يكن الثوريون الجدد قادرين على الدفاع عن الدولة الناشئة، ناشدوا مصر التي لبت وأرسلت ثلث قوتها من الطيران و 70.000 جندي، حيث وجد عبد الناصر في النزاع فرصة لتعزيز سجله كمدافع عن القومية العربية. ومن جانبهم طلب الملكيون الدعم من السعودية التي خافت من دور ناصر المزعزع لاستقرار شبه الجزيرة العربية، ولهذا فتحت لهم حدودها وأمدتهم بالدعم المالي. وبحلول عام 1963 كان قادة اليمن الجدد يكافحون لاحتواء التمرد الذي دعمته السعودية وزاد طلبهم من مصر للمساعدة، وكلما زاد الحضور المصري في اليمن، كلما تآكل الدعم الشعبي للجمهوريين. وكان لدى السعوديين حساباتهم الخاصة حول التورط مع قبائل شمال اليمن، فقد التزموا بسياستهم من البلد التي اتبعوها منذ الثلاثينات في القرن الماضي، حيث كانت الحكومة السعودية مهتمة بمنع انتصار مصري ولكنها لم تكن راغبة بعودة الإمامة نظرا لتاريخها في النزاع مع السعودية. ولهذا اقتصر الدعم السعودي للقبائل من أجل فرض حالة الجمود على ساحة المعركة وليس التأكد من هزيمة المصريين. وللخروج من مأزق الحرب ظهرت قوة ثالثة، قادت البلاد نحو الاستقرار. وقاد القاضي الأرياني التجربة اليمنية الحديثة. وبعد خمسين عاما يواجه اليمن وضعا مشابها لفترة الستينات. وطالما ظل البلد موزعا بين قوى ملوثة بالتبعية الأجنبية، فلن يحصل الاستقرار. وربما جاء الوقت الذي يتوصل فيه المدنيون والمعتدون والوسطاء للتقدم أماما وخلق قوة ثالثة.
لا حل
المهم في الأزمة اليمنية ان دينامياتها المحلية لا تزال بدون حل، فلو انسحبت السعودية والإمارات من النزاع فإن الأطراف ستواصل حروبها. وكما ناقش أحمد ناجي في «فورين أفيرز» (21/7/2023) فالحرب اليمنية هي أبعد ما تكون حربا بالوكالة، ولم تستفق الأطراف المشاركة فيها، وربما لا تهتم بالثمن الإنساني من مقتل مئات الآلاف وتهجير أكثر من أربعة ملايين شخص وحاجة نسبة 80 في المئة من سكان البلاد أو 21.6 مليون نسمة للمساعدة.
ولعل أقصى ما وصلت إليه الجهود الدبلوماسية هي مصافحة بين السفير السعودي محمد الجابر وقادة المتمردين في نيسان/إبريل. ومن شبه المؤكد أن انسحاب السعودية من اليمن الذي يجري التفاوض عليه لن ينهي الحرب. بل إنه سيعيد البلاد إلى مرحلة سابقة من الصراع، عندما كان محليا في أصله قبل أن يفاقمه تدخل القوى الإقليمية. والسبب هو أن القوى اليمنية المتصارعة حصلت على مكتسباتها بالقوة وتتعامل مع الحوار كوسيلة لتحقيق مكاسب عسكرية. ولن تنجح عملية السلام بدون تسوية سياسية بين جمع الأطراف المتحاربة وليس جيران اليمن فقط. ولم تتغير صورة الحرب منذ ثمانية أعوام حيث يحتفظ كل طرف بمكاسبه التي حصل عليها بدعم الأطراف الخارجية، ولو حصل تقدم على ساحات المعارك فهو طفيف. وكما لاحظنا فوحدة اليمن لم تعد قائمة رغم التزام الأطراف الخارجية بها، باستثناء الإمارات. والمشكلة اليوم هي إعادة الوحدة حيث قام كل طرف بإعادة هيكلة الإدارة لمصالحه، وفي مناطق الحوثيين تم تهميش كثير من المجموعات القبلية والسياسية التي تعاملت معهم في السابق. فقد اعتقلت الزعامات القبلية الشمالية التي دعمت تقدم الحوثيين عام 2014 وإن لم تعتقل فقد همشت. ونفس الأمر يصدق على الجماعات الأخرى وخاصة المجلس الانتقالي الجنوبي الذي فرض سلطته من خلال الإمارات ولا يعني أنه يمثل كل الجنوبيين. وسيظل اليمن ساحة تدخلات خارجية من إيران وجيرانه وميدان حرب بين الطامحين للسيطرة عليه.
لا حظ له من الاستقرار
ومع هذه التوليفة من المشاكل والمعوقات للتسوية ومحاولة كل طرف أن يحقق انتصاره، فلا حظ لليمن من التحولات التي تشهدها المنطقة. ورأت مجلة «إيكونوميست» (7/9/2023) أن دعوة دول خليجية الانضمام لمجموعة بريكس وهو النادي الذي كان مقتصرا على روسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل، دليل على التغير في الشرق الأوسط، ومحاولة دول مثل السعودية والإمارات أن تلعب دور الحياد في الشؤون الدولية، سواء التوسط في الحرب الأوكرانية كما فعلت السعودية أو لعب دور فاعل بمجال الطاقة. والأهم من ذلك هو ما تراه المجلة «الهدوء النسبي» بالمنطقة، هدنة اليمن مستمرة، حيث انخفضت مستويات القتل وكذا استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران وحلت قطر خلافاتها مع جيرانها، بل وطبعت دول الخليج علاقاتها مع نظام الأسد الديكتاتوري، فيما تحث أمريكا الرياض كي تنضم لنادي الدول التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل. ورصدت المجلة ثلاثة تحولات، الأول وهو تحمل المنطقة مسؤولية أمنها بعد تراجع شهية التدخل الأمريكي بسبب العراق وأفغانستان. أما الثاني فهو تحول الطاقة الذي تقوم من خلاله دول النفط بتنويع اقتصاداتها بدلا من ممارسة لعبة الطفرة النفطية والكساد. والثالث فهو تعب الرأي العام من التجارب السياسية ديمقراطية أم إسلامية كانت، وتبني فكرة الاقتصاد. وهي تحولات جديرة بالانتباه لكنها جربت من قبل وقد تؤدي إلى توترات قادمة من ناحية التغيرات المناخية وتوسع فجوة الفقر بين المجتمعات وانهيار الدول الفقيرة بشكل أكبر. فقادة دول الخليج مثلا يرون أن البراغاتية الاستبدادية قد تكون بديلا عن الديمقراطية. إلى جانب الميل نحو النظام المتعدد الأقطاب بدلا من النظام الذي قادته الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومع أهمية التركيز على الاستقرار، وخاصة من الجيل الشاب، يحتاج الشرق الأوسط التغلب على عدد من المشاكل الكبيرة، فالمستبدون «المتنورون» يقولون إن محاسبتهم تكون بناء على أدائهم، لكن الأنظمة الديكتاتورية المطلقة غالبا ما تميل للتدهور والانحطاط. وهناك مشاكل تواجه المنطقة مثل مخاطر انتشار السلاح النووي والتغيرات المناخية، في منطقة تعتبر الأسخن في العالم. وفقط الدول الغنية هي القادرة على الاستثمار في مشاريع تخطيط المدن وتحلية المياه. وبعيدا عن الدول الغنية بالمنطقة، فهناك مناطق تعيش اليأس، من الضفة الغربية واليمن إلى لبنان الغارق في أزمة اقتصادية ومصر التي قد تسير نحو المصير نفسه. فالشرق الأوسط الجديد يجسد عقلية تعاقدية ربما جعلت الأغنياء أكثر ثراء. ويذكرنا الخاسرون أنه في عالم لا توجد فيه إلا مبادئ وقواعد قليلة فلا أحد يأتي إلى المساعدة. ومن هنا تبدو قصة الحرب في اليمن هامشية لكل ما يجري في بقية منطقة الخليج، أو ما يريد الإعلام الغربي توصيفه بأنه نجاح، لأن خطوط الصدع التي برزت في العقدين الماضيين لا تزال قائمة من العراق إلى سوريا ومصر وبقية الدول العربية.