[ آثار اليمن وتراثه المهدور ]
لعل أفضل نموذج في الحفاظ على إرثه وحضارته هو الإنسان المصري، ولا يمكن أن نستشهد بما نُهب من الآثار المصرية؛ لأن ذلك أصبح قليلا أمام ما اكتشف وتم حفظه، والقياس على الكثير الشائع، فالذي هرب من بلادنا إلى شمال الجزيرة العربية وأوروبا وأمريكا لا يعد ما اكتشفته السلطات شيئا أمامه، فهذا الأخير يعد بأصابع اليد من شمال اليمن إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، وأكثر الآثار المعروضة لا يزيد عمرها عن مائة وعشرين عاما، بينما اليمن الضارب في العمق البشري لم نقرأ عنه إلا في كتب المرويات، ولم نلمس مؤشرات ذلك إلا في المزادات العالمية.
وللإنسان اليمني إسهام في طمس الهوية التاريخية لشعبه فقد تجلى ذلك بصور عدة أهمها: العبث والتهريب، وهاتان الصورتان كانتا نتيجة غياب الوعي لدي الإنسان اليمني؛ ذلك أن الوعي الوطني يمثل الوقود الحقيقي للحفاظ على الشعوب، وهو يستمد من ماضيها وحاضرها.
فإذا انعدم طرف كان البناء إلى زوال، ولنا بالتجربة الأردوجانية مثال، حين ذهب يغرس الوعي الوطني في قلوب الأتراك الجدد عن طريق نبش تاريخهم، والعزف على وتر حساس في نفوسهم، مما بوساطته يضمن سلامة شعبه ووحدة أراضيه أمام الأطماع الخارجية.
وهو ما يفتقد إليه الإنسان اليمني الذي عاش حياته مشغولا بطلب العيش فانعدمت فرصة تكون الوعي لديه، فضلا عن أن طبيعته مجبولة على النكران لأرضه، فهو لا يبحث في سبُل بنائها ولا تطورها، إنما في أول عارض يعترضه يتركها ويغادر معمرا بلادا أخرى، بدليل سيل العرم الذي لم يفكر الغالب منهم آنذاك بإعادة بنائه واستغلاله ثانيةً إنما هاجروا إلى شبه الجزيرة وبلاد الشام، وظل ذلك متوارثا حتى يومنا هذا.
وبالعودة إلى الوعي الوطني الذي يقوم على مجموعة أسس منها الوعي التاريخي، ففرصة تكونه لدي المواطن اليمني تكاد تكون منعدمة، فإضافة إلى ماسبق نجد أن ماديات التاريخ اليمني تنعدم باستمرار، وهذا الانعدام إما عن طريق التلف وإما عن طريق التهريب كما سلف، فأما الأولى فيتدخل في تحققها المواطن نفسه والسلطات نفسها.
وهذا يتجلى في صورتين: الصورة الأولى ما تخص المواطن العادي فقد ذهب يعبث بالمواقع الأثرية مدمرا إياها بحجة البحث عن الكنوز، وقد حدث أن منهم من ذهب ينقب عن المومياوات ويحتفظ بها في بيته، مع أن فكرة وجود مومياوات في اليمن بحد ذاته يمثل تاريخا جديدا في الجزيرة العربية كلها، وذلك التصرف جريمة كبرى تستوجب المساءلة القانونية والعقاب في حال وجود دولة مسؤولة.
وأما الصورة الثانية فهي ما تخص الحكومة نفسها التي لم تهتم بالتراث المادي اهتماما صادقا بدليل تدميرها لقصر غمدان الذي يزيد عن ألف وأربعمائة عام فحولت جزءا منه سجنا حربيا، والجزء الآخر تركته لعوامل التعرية وغيرها، ووضعت سياجا خفيفا على معبد بلقيس لا يضمن لنا سلامته، ولم تقف موقفا حازما أمام الكتابات والرسومات التي يكتبها الزوار على جدرانه، إذ كأنك في مدرسة ابتدائية عندما تزور ملحقاته، ولو لم تنقب عنه بعثة فلبس الأمريكية ربما لم نعرف في التاريخ اليمني معبدا يسمى معبد برّان، بدليل أنه اكتشف في بداية النصف الثاني من القرن العشرين وأضيف إلى قائمة اليونسكو للتراث العالمي بعد أكثر من سبعين عاما من اكتشافه.
وبالعودة لم تبدِ الحكومة أسفا أمام ضربات الطيران التي استهدفت قلعة القاهرة التي يرجح أن عهدها يعود إلى الصليحيين فهدمت ملحقاتها، واستهدفت معابد في الجوف تعود لمملكة معين فدمرتها، وتركت المومياوات الموجودة في متحف جامعة صنعاء تتلف ببطء، فعندما تراها تحزن لواقعها، حتى إن هناك منها ما هو تالف تماما قد تجزأ وتقسم ووضع في كيس أسود يشبه كيس النُّفايات تذكرك بالتمباك الشعبي، ولم تدعم أبحاث التنقيب وجماعاته، وهلم جرا.
وأما الطريقة الثانية التي ساهمت في انعدام ماديات التاريخ اليمني وهي التهريب فقد قضت على أكثر من نصف ذلك الموروث؛ إذ تطفح المزادات العالمية كل عام بمقتنيات يمنية تصل قيمة القطعة الواحدة أحيانا إلى ستمائة ألف دولار حسب ما أعلنت بعض المواقع مثل موقع مزاد سبوذثي البريطاني، مما يغري تجار الآثار والجهلاء من الناس.
والخلاصة أنك تجدها مترامية أطرافها في كثير من دول العالم، وهذا سببه التجاهل من قبل الجهات المعنية التي لم تشدد في أمن المطارات حتى تضمن عدم تهريبها، إن لم يكن بعض الدبلوماسيين متورطين بالفعل في تيك الجريمة القومية.
أضف إلى ذلك عدم الحزم مع فرق التنقيب الأوروبية والأمريكية والعربية التي ساعدت بعضها على تهريب عشرات النقوش ومئات القطع الأثرية من مطلع النصف الأول من القرن الثامن عشر وحتى القرن العشرين، فعلى سبيل المثال لا الحصر استطاع الملازم ( نيبور ) أن يخرج نقوشا عديدة من اليمن إلى الدنمارك بشهادة كثير من المؤرخين، وكثير من المستشرقين فعلوا فعله دون اتخاذ موقف من ذلك، وفي القرن العشرين عثر على المئات من الصفائح الذهبية والبرنزوية والمنحوتات والتماثيل التي كتب عليها بخط المسند من قبل فرق التنقيب واختفت كما اختفى كثير من النقوش.
فلو كان يعي الإنسان اليمني قيمة موروثه ومعناه الحقيقي مستشعرا قدره وأهميته لما كان جزءا في القضاء على هويته وطمسها تماما، ولوفر على الأجيال القادمة مستقبلا يصعب بناؤه دون ماض يعايشه ويكون سببا لنهضته.
فالأمم اليوم تحاول أن تقدم شيئا لأجيالها، فتتشبث بماضيها تشبثا يضمن لها موقعها في الوجود، لكن ذلك انعدم عند الأمة اليمنية فضيعت ماضيها الذي انعكس على حاضرها وسينعكس على مستقبلها.