كنت أخالني دوما وأنا أمتطي جواد السمح بن مالك الخولاني وهو يجوب بين الجموع للتحشيد لغزو بلاد الغال أو ما يعرف ببساطة اليوم بجنوب فرنسا.
من على شاطئ ماربيا تحسست في الرمل الدافئ بعد نزوله اليابسة، أقدام القائد العسكري اليمني الذي سيصبح خامس حكام الأندلس في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز وستصلح في عهده إدارة الأراضي والخراج وستؤمن الدولة العربية الفتية بمزيد من الحماية عبر التغول شمالا.
في تلة على البحر فردت يدي في ماربيا المدينة التي ستصبح الآن مهوًا للسياح وللزوار لجمال شاطئها وجوها.
كانت الشوارع تعج بالزوار وأغلبهم سياح عرب وخليجيين قدموا إليها إما للسياحة أو لتذكر تراث الأجداد في كل مدن الأندلس.
مررنا بتلة خضراء جميلة قيل إن قصورها المصغرة والجميلة جميعها ملك لخليجيين من أمراء وتجار. وحتى مسجد "الملك فهد" في تلك المنطقة هو الوحيد الذي يؤذن فيه بميكرفون خارجي.
بالقرب من ماربيلا، تقع "الجزيرة الخضراء" ولوحات هذه المدينة قبل الوصول إليها مكتوبة باللغة الإسبانية وبالعربية. لم يروقني شيء فيها غير الميناء الضخم وبقايا من مشاهد "ربيع قرطبة"؛ المسلسل التاريخي الذي تناول قصة المنصور بن أبي عامر المعافري وهو يولد ويترعرع في هذه المدينة قبل يذهب إلى قرطبة ويتدرج فيها حتى يصل إلى منصب الحاجب أو الوزير.
وفي عهد هذا القائد المحنك ذو الأصل اليمني أيضا، ستشهد الأندلس انطلاقة أخرى ماليا وإداريا وعسكريا. لكنه وبتهمشيه للوالي الصغير ولأمه التي أعجبت به في البداية وقربته ثم تبرمت منه وحاربته لاحقا، سيؤسس لمرحلة جديدة من الفوضى تنتهي بما سمى بدولة الطوائف.
كان واحد من أهم أهداف الزيارة هو "الحمراء" لكن الطقس الحار أفسد كل سنين الاشتياق. لم أعرف طقسا حرا بحياتي كذلك الذي عشته داخل قصر الحمراء. غسلت رأسي بكل نافورات المياه في كل حدائق القصر. أظن أخر من لعب بماء نافورات تلك البساتين هو الملك الصغير الذي بكى كالنساء ملكاً لم يدافع عنه كالرجال، حيث تنسب المقولة الشهيرة هذه إلى أمه بعد سلم إبنها الملك وغرناطة لملك القتشاليين فرناندو في أغسطس 1493 ميلادية.
من شدة حرارة الجو وأنا داخل القصر، وصلت لمرحلة صحت على الرفاق الطيبين وقلت لهم دعونا نخرج من هنا ونعود للهوتيل: تباً للحمراء ومن خلف الحمراء ومن خلف الأندلس وراءه ظهر تأريخه ومضى في الضياع.
لكننا استطعنا التجول في قصر النصريين وأقسامه وفككنا بعض طلاسم الكتابة والاشعار والآيات القرآنية التي ماتزال ماثلة كتحفة فنية لا تمحى مع تقادم الأعوام والسنين.
في مدخل الحمراء استعدنا قصدية نزار قباني. وتذكرناها جيدا ونحن نتبع بعض مجموعات الزوار العرب التي تحتاج إلى مرشد يتحدث العربية. كانت إحداهن تبدو شبيهه بالتي عناها نزار في قصيدته المجنونة. لكن الحرارة والزحام قتلا حتى متعة النظر والاستماع والاستجمام.
صادفت أحد الزوار الكنديين من أصل جزائري هناك وحين عرف أنني يمني ومن قبيلة اسمها العامري بعدما أصر على سماع من أي القبل أنا، لشيء ربما في ذاته، كاد يطير من البهجة وأراد أن يسمح مني تأريخ ماعرف بالدولة العامرية أو "عامريو الأندلس" بل أراد سحبي إلى تأريخ الأندلس كله وصراع اليمانية والقيسية. فقلت "حلقت" وصافحته ومضيت.
قبل العودة إلى ملقا؛ مقر الإقامة ونقطة الانطلاق لكل مدن الأندلس. قلت لابد من البحث عن أقرب "مقهى شيشة" لأستطيع التدخين هموم التأريخ الذي أضعناه.
لكن بالنسبة للأندلسيين وللأسبان لم يكن الأمر سوى غزو جائر. لاحقا سيعملون على استعادة بلدهم التي فقدوها في لحظة ضعف. في كل المنشورات التعريفية في مسجد وكاتدرائية قرطبة يقولون "فتح قرطبة"؛ بمعنى استعادة ملكيتها لهم.
وبالنظر إلى التاريخ يرى مؤرخون أن لديهم حق فهي ذلك لأنها كانت ملكا لهم وفقدت ثم تم استعادتها. فيما يعتقد مؤرخون مسلمون وعرب أنه بعد كل هذا الزمن من حكم الأندلس تمازجت الأجناس وتغيرت التركيبة السكانية وانغرس العرب والأفارقة لأجيال في تلك التربة وبالتالي فالأندلس أصبحت بلد لهؤلاء أيضا، وهم أحق بحكمها والدفاع عنها، أو لنقل التحسر عليها.
إن التحسر والغضب يرتبط دوما بحكاية المورسكيين الحزينة وما تعرضوا له من تنكيل من قبل قوات الحكم المسيحي بعد سقوط راية العرب والمسلمين هناك.
في جولتي الأندلسية، لفت نظري تلك التضاريس التي تشبه تضاريسنا العربية. قلت لصديق مازحا: كان يفترض أن يتوسط البحر الأبيض المتوسط أسبانيا العليا والأندلس.
جبال شبه سوداء ليست شاهقة تتناثر في أحضانها أشجار بخضرة مرتبكة تشتكي سخونة الصيف.
الأشجار المبعثرة في الهضاب والربى والتي تشبه إلى حد ما تلك الأشجار المصفوفة على الهضاب المحيطة وأنت تشق طريقك إلى الحديدة عبر جبال العدين. أشجار كأنها أشجار السدر لكنها ليست هي.
وحتى النخل الباسق مصفوفا ًعلى امتداد بعض الطرق البحرية يذكرني بمصدر الرطب العربي وطعمه. تذكرت حكاية زراعة أول نخلة جاء بها عبد الرحمن الداخل من الشام. ملامح الناس وذلك اللون الممزوج بين السمار والشقر لينتج لك لون يشبه لون "الشاي الحليب". بنية أجساد الفتيات الجميلات في شوارع ملقا الضيقة، ولون شعرهن وحدة وصغر الأنف يعتليها حاجبين سوداويين متواصلين ومرسومين بعناية.
الأندلس هو ذاته ذلك الحنين المسافر في جوانحنا أذهاننا ومناهجنا وفي كتب التأريخ وحلقات الدراما.
في قادش وهي شبه جزيرة تعد أقرب نقطة أندلسية لمضيق وبلد "جبل طارق"، قضينا يوما بديعا أيضا. كان الهدف المسبق هو الغداء في مطعم يمني افتتحه أربعة شبان يمنيين مهاجرين. وقدمت لنا نصيحة لزيارته كون ضمن برنامجنا الغذائي هو التنويع في الأطباق خلال أيام الزيارة.
سنجلس إلى الشبان اليمنيين لاحقا، وسنكتشف أنهم نموذج لهذا الإنسان المعجون بطينة التحدي والحياة أينما حل وارتحل.
اسم المطعم مكتوب باللغة الإسبانية ويعني "بوابة عدن" ولكنه يقدم أكلات شرقية متكاملة وما المطبخ اليمني إلا جزء يسير منه. يقول وسيم، وهو أحد الملاك والعاملين أيضا، أنه أغلب زبائن المطعم هم أسبان وسياح ممن يرتادون المدينة الصغيرة. إذ ذاع صيتها بسبب موقعها الجميل ومينائها الكبير والهام، وإلى ذلك بالنسبة لنا، فريقها الكروي الذي يناطح أحيانا في بعض مواسمه، كبار الليجا الإسبانية كريال مدريد وبرشلونة.
في أسبانيا اللاجئون المعترف بهم لا يقدم لهم شيء، فقط أوراق واستضافة بمقابل مادي لأشهر قليلة ومن ثم يركلون للشارع. على العكس من دول وسط وشمال وغرب اوروبا التي تستضيف وتدعم إلى ما لا نهاية.
ولهذا تعد هذه ميزة تجعل الكثير ممن أجبرتهم الظروف في بلدانهم على الهرب أو الهجرة إلى أسبانيا أو إيطاليا أو اليونان، يبدأ التفكير فورا بمشروعه الخاص لينجو.
ونحن نشرب الشاي بعد الغداء، سلم علينا رجل لطيف يبدو من هيئته وكأنه خرج لتوه من فيلم أمريكي.
حدثنا باللهجة المصرية وجلس معنا ومن ثم اكلمنا معا جولة في المدينة وفتحنا معه أحاديث شيقة. سنكتشف أنه صاحب خبرة في السفر عبر البحر وقد جعله عمله ينزل تقريبا في كل جزر وموانئ العالم.
قلت له لاحقا لطالما حلمت برحلة بحرية تستغرق شهور. قال لي بلكنة خفة دم مصرية، "تقدر طبعا، بس منصحكش".
المهندس المدني في البحرية الأمريكية أعادتني حكايته إلى تلك البحارة الذين يقضون حياتهم المهنية في البحر وعندما ينزلون اليابسة يبدؤون أساليبهم في اكتشاف أسرار المجتمعات وتكوين علاقات حقيقة جميلة ومنعشة، فهم يدركون أنها ستكون مؤقتة لكنها ستمنحهم طاقة من السعادة قبل الانطلاقة نحو مرفأ وهدف ومجتمع جديد.
صور بعض الرحلات لا تمحى من الذاكرة. فهي أصلا في الذاكرة قبل السفر. فالأندلس يحبذ زيارتها في توقيت غير الصيف الحار. ربما في الربيع أفضل وقت للانتعاش. هذا الصيف بالذات الطقس ساخن جدا في كل أوروبا، وجنوبها تحديدا. غير نسائم التأريخ التي تجولت معنا في كل مزار قصدناه في غرناطة، قرطبة، ملجا، إشبيلية، المدينة الخضراء، ماربيا أو قادش "قصرا كان، مسجد، بيت قديم، قلعة أثرية، ميناء أو شاطئ" كل ذلك كان قد منحنا برودا هانئا أطفأ لهيب الأسئلة والاشتياقات التي راكمناها منذ زمن.
من كل تلك الأماكن التي زرتها لم يأخذني لعالم خاص دافئ سوى "البيت الأندلسي" أو ما يعرف بيت "سلمى الفاروقي" في قرطبة، وهو منزل يعود بنائه للقرن الثالث عشر في أوج الحضور العربي والإسلامي في قرطبة، وتم تجديد بعض أجزائه ليمثل اليوم واحد من أهم المزارات في قرطبة، إنه يحوي كل التفاصيل التي كان عليها البيت الأندلسي القديم في عاصمة العالم حينها والتي كانت تعج بالعلماء، بالأطباء، الشعراء، المثقفين والمغنيين.
زرته في الظهيرة وتجولت في كل أقسامه، ولكنني بالقرب من نافورة الماء في بهو المنزل وجدت كرسي أثري أيضا في ردهة يغشاها الظل والانسجام، ارتميت عليه بكل حب وشعرت مع صوت خرير الماء المتمازج مع انسياب موسيقى أندلسية، أن وقتي حان لأتحدى ابن زيدون وأكتب قصيدة غرامية أطلب بها ود ولادة بنت المستكفي.