تسارعت وتيرة انتشار الفساد المالي والإداري في اليمن الخاضع لسلطات متعددة، وسط تبديد مستمر للموارد السيادية التي تثير عملية إدارتها عديد التساؤلات عن مصير المال العام، في ظل توقف شبه تام للأجهزة الرقابية والمحاسبية الحكومية.
ويأتي ذلك، في ظل معاناة مؤسسات الدولة، من اختلالات واسعة مع تعطيل سلطة القانون وتفشي الفساد والعبث بالمال العام ووصول الأمر إلى مساومة السلطات الحاكمة على رواتب الموظفين ورفضها إتاحة ما تحت يدها من موارد سيادية لصرفها.
وكشفت مصادر لـ"العربي الجديد" عن رصد عمليات فساد متواصلة في مختلف القطاعات، من أبرزها النفط والبنوك والعقارات، خلال الفترة الأخيرة، إلا أنها لم تذكر تقديرات محدّدة للأموال المنهوبة.
وأكدت المصادر، التي رفضت ذكر اسمها، عدم تقديم أي مسؤول في الدولة والحكومة اليمنية منذ عام 2014 إقرارات الذمة المالية وفقاً للقانون الخاص بذلك رقم 30 الصادر عام 2006، الذي يلزم بتقديم هذه الإقرارات عن الأموال والأملاك ويفرض عقوبات على المتخلفين. الخبير القانوني المتخصص في الأموال العامة شهاب البيضاني،
يؤكد في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن ضعف الرقابة الفعالة على الأموال العامة والموارد السيادية أدى إلى انتشار العبث والهدر وشبهات الفساد مع انقطاع دورة العمل المحاسبية في مؤسسات الدولة وتعثر أداء الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة الذي أصبح متهماً بشبهات فساد لبعض القائمين عليه، كما هو حاصل في العاصمة صنعاء (التي يسيطر عليها الحوثيون)، بينما لا يوجد أي أثر له في عدن، ما يضع علامات استفهام حول حجم ومصير إيرادات تصدير النفطوإيرادات القطاعات غير النفطية.
وأكد مصدر حكومي، فضّل عدم ذكر اسمه، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن معالجة وتفعيل وإصلاح أوضاع الوحدات الاقتصادية وأجهزة الدولة الرقابية والمحاسبية تأتي على رأس أولويات الحكومة اليمنية في عام 2023، إذ سيُعمَل على اتخاذ إجراءات وصفها بالجريئة والحاسمة لمعالجة الاختلالات القائمة في عملها بهدف تعزيز الأداء الرقابي والمحاسبي على الموارد العامة المتاحة التي يتسرب جزء كبير منها بسبب الهدر والفساد وتردي وتعثر أداء مختلف هذه الدوائر والأجهزة والوحدات الاقتصادية والإيرادية والرقابية العامة.
وشدد على توجه الحكومة اليمنية إلى إجراء تقييم شامل للإصلاحات الاقتصادية المنفذة خلال العام الماضي ومستوى انعكاساتها على تحقيق الانتظام والانضباط المالي والنقدي، وكيفية تطوير هذه المنظومة من الإجراءات والخطط وتلافي ما رافقها من تعثر واختلالات لانتشال المؤسسات الدستورية والارتقاء بعملها وتطوير أطر الشراكة وتفعيل دور القطاع الخاص وتعزيز حركة الاقتصاد الوطني.
وأدت الحرب في اليمن إلى تقسيم البلد إلى شطرين تحت سيطرة حكومتين، في صنعاء وعدن، تتشابهان في خصائص عديدة بالنسبة إلى إدارة الموارد السيادية خلال سبع سنوات من الحرب، وتختلفان في أوجه أخرى، وقد يستمر ذلك خلال فترة الهدنة.
وتحدد دراسات اقتصادية حديثة أوجه الشبه بين هذه السلطات، في أن كلاً منهما تدير الموارد السيادية المتاحة دون ميزانية عامة مقرة من مجلس النواب، ودون قانون الميزانية، وهذا مخالف للدستور والقوانين النافذة. كذلك، تدير كل منهما إدارة المال العام بعيداً عن الشفافية والمساءلة، فلا تتوافر بيانات إجمالية أو تفصيلية عن بنود الإيرادات العامة أو عن بنود النفقات العامة، ولا توجد حسابات ختامية توضح أوجه الإيرادات والنفقات، ما يثير تساؤلات خطيرة عن جودة الحوكمة في إدارة المال العام.
وفي الوقت الذي تتفشى فيه شبهات الفساد في مفاصل كلتا الحكومتين، بنسب متفاوتة، تتنصل كل منهما من مسؤولية صرف مرتبات موظفي الدولة، كذلك أعفتا أنفسهما من مسؤولية دعم المشتقات النفطية والكهرباء وتقديم الإعانات الاجتماعية.
ويربط الباحث الاقتصادي علي قايد، في حديثه لـ"العربي الجديد"، بين الفساد المتفشي وتبديد وهدر الموارد العامة المتاحة وتوسع رقعة الفقر والجوع وانعدام الأمن الغذائي في اليمن، إذ إن عائدات النفط التي تحصلها الحكومة اليمنية يذهب الجزء الأكبر منها لجيوب الوزراء والمسؤولين، فيما تسري الإيرادات الأخرى في قنوات غير شرعية، بينما ضاعفت سلطة صنعاء من الجبايات التي تفرضها عبر أكثر من مسمى وجهة إيرادية، التي هي الأخرى مصيرها غامض ومجهول.
وتعاني عشرون محافظة من أصل اثنتين وعشرين في اليمن من مرحلة "الطوارئ" بالنسبة إلى عمليات انعدام الأمن الغذائي، فيما يواجه أكثر من ثلثي سكان اليمن خطر الجوع، ويحتاجون بشكل عاجل إلى مساعدات لإنقاذ أرواحهم والحفاظ على سبل معيشتهم.
وكانت الحكومة اليمنية الشرعية المعترف بها دولياً قد حثت في مطلع يناير/ كانون الثاني 2023 الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة على استكمال مراجعة أعمال جميع الوحدات الاقتصادية ورفع نتائج تقارير المراجعة، وإحالتها على الجهات المختصة وعدم التهاون مع أي جهة تمتنع عن تقديم بياناتها المالية للأجهزة المعنية لمراجعتها والعمل بشفافية ومسؤولية وتصحيح كل الاختلالات، سواء المالية أو الإدارية، وكذا تكثيف وتوسعة أعمال الجهاز ليشمل مؤسسات الدولة كافة دون استثناء للرقابة والمراجعة وكشف أي حالات فساد وإحالتها على الجهات القضائية المعنية.
وفي السياق، تؤكد وزارة المالية أنها تنفذ رؤية تطويرية متكاملة لتنمية الإيرادات الضريبية والجمركية والحد من التهرب الضريبي والعمل على إنجاز عملية الربط الشبكي ضمن خطوات أتمتة العمل المالي. ويتطلب الوضع الراهن الذي يمرّ به اليمن إجراء تغييرات جذرية في البنية الاقتصادية والتوظيف الأمثل للموارد وتعديل القوانين للمحافظة على الموارد السيادية، حسب مراقبين.
وفي قراءة تشخيصية للوضع الاقتصادي وعمليات الفساد في اليمن، يبين رئيس قسم العلوم المالية والمصرفية بجامعة ذمار، محمد الرفيق، لـ"العربي الجديد"، أن الفوضى أدت إلى تفاقم وضعية الاقتصاد اليمني وتردي نظام الإدارة المالية العامة وعجزه عن دعم النمو واستيعاب الموارد المتاحة بشكل أكثر فاعلية.
ويؤكد أن اليمن افتقد على الدوام خططاً وإصلاحات تخلق بيئة منتجة تنمّي الاقتصاد وتكسبه ميزات تنافسية إنتاجية صناعية تؤدي إلى استغلال ثروات البلاد ومقدراتها ومكافحة الفساد، مشيراً إلى أهمية تطبيق القوانين المنظمة للقطاعات المختلفة وترسيخ الشفافية في عمليات تنفيذ الميزانية وإقامة آليات فعالة للرقابة الداخلية.