[ مواطنون ينتظرون في صفوف طويلة للحصول على قنينة غاز في صنعاء (Getty) ]
لا يستطيع الخمسيني أبوبكر مانع، وصف حجم المعاناة التي يقاسيها في توفير قنينة غاز الطهو التي ما إن تصل بعد جهد مضنٍ، حتى تنفد سريعاً خلال 12 يوماً، بالرغم من أن المدة المحددة لها لا تقلّ عن 20 يوماً، بالنظر إلى الاستخدام المحدود جداً لها في إعداد الوجبات في المنزل، خاصة في ظل الارتفاع الباهظ لكلفة استبدال القنينة الفارغة بأخرى ممتلئة.
يؤكد أبو بكر، وهو من سكان صنعاء، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن هذا الأمر دفعه خلال الفترات الماضية لبيع حصته بثمن زهيد من المساعدات الإغاثية التي كانت تقدمها المنظمات الأممية، كالدقيق وزيت الطهو، لعدم قدرته على الاستفادة منها بسبب الصعوبة التي يواجهها في تدبير أموال الحصول على غاز الطهو.
ويكابد اليمنيون مختلف صنوف المعاناة جراء تعاقب أزمة المشتقات النفطية التي تعتبر أحد أبرز الاختلالات في الاقتصاد اليمني، بالنظر لتداعياتها في زيادة معاناة اليمنيين، كما ترصد ذلك "العربي الجديد"، التي تتبعت مستوى الاختناقات وحركة غاز الطهو في الأسواق اليمنية التي قفزت أسعاره في السوق السوداء من 1950 ريالاً للقنينة "الأسطوانة" زنة 18 كيلوغراماً نهاية 2014 إلى 7000 ريال في عام 2019، لتزيد إلى 8000 ريال خلال عام 2020، ونحو 9000 ريال منذ العام الماضي 2021، فيما تتجاوز الأسعار في بعض الفترات حاجز 10 آلاف ريال (حوالى 18 دولاراً وفق سعر الصرف في صنعاء).
أسعار مرتفعة واحتكار
وتعاني الأسواق في عموم المدن اليمنية، إلى جانب الأسعار المرتفعة والاحتكار، من اختناقات متواصلة وشحّ المعروض من مادة غاز الطهو المنزلي وانتشار مخيف للأسطوانات والأدوات التالفة وتوسع دائرة التكسب من السوق السوداء للوقود، إذ تعتبر من أهم منافذ الإثراء غير المشروع التي انتشرت في اليمن منذ عام 2015.
منذ الشهر الماضي، تشهد عدة مدن احتجاجات متواصلة للتعبير عما تعيشه من أزمات خانقة في مادة غاز الطهو، إذ نفذ قطاع المطاعم في تعز إضراباً جزئياً تمثّل بإقدام مطاعم على إغلاق أبوابها بسبب عدم توافر غاز الطهو.
وعزت جهات مسؤولة السبب الحاصل في اختناقات الغاز أخيراً إلى ما تقوم به الشركة اليمنية للغاز الحكومية من أعمال صيانة وتوسعة في منشآت صافر بمحافظة مأرب (شمال شرقيّ صنعاء) المزودة الرئيسية لغاز الطهو في السوق المحلي في عموم المحافظات والمدن اليمنية.
وساهمت أزمة الغاز وأسعاره المرتفعة والاختناقات المتواصلة التي تشهدها الأسواق اليمنية في ارتفاع أسعار الوجبات في المطاعم العاملة في العاصمة اليمنية صنعاء.
استطلعت "العربي الجديد"، آراء عيّنة من اليمنيين في 6 مدن، صنعاء وعدن، تعز وشبوة وإب، في أهم الأزمات التي تواجههم، وجاء غاز الطهو في المرتبة الثالثة بعد فقدان الدخل والغلاء، فيما جاء في المرتبة الأولى بالنسبة إلى أكثر السلع التي يجدون صعوبة في توفيرها.
رئيس جمعية المستهلك اليمنية فضل منصور، يعتبر في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن الغاز من أهم السلع لارتباطه المباشر بالمستهلك وفي كل مناحي الحياة، لكن إلغاء محطات الغاز المنتشرة بالأحياء السكنية منذ بداية الحرب وإحالة مهمة التوزيع على "عقال الحارات" (الأشخاص الذين تختارهم السلطات في هذه المناطق لتسيير شؤون المنطقة)، وخصوصاً في مراكز توزيع في صنعاء ومدن أخرى في شمال اليمن، ساهم في خلق بؤرة للفساد والمحسوبية وارتفاع تكلفة الغاز المحلي أو المستورد.
ثلاث تسعيرات للغاز
ويعزو منصور سبب ارتفاع الأسعار وتعددها، حيث توجد ثلاث تسعيرات للغاز في صنعاء، إلى الاحتكار واستمرار البيع عبر "عقال الأحياء".
وتدعو جمعية حماية المستهلك إلى توحيد سعر غاز الطهو المنزلي وإلغاء أي زيادات طارئة وعدم تحميل المستهلك تكاليف تأخر قاطرات نقل الغاز من مدينة مأرب (شمال شرق صنعاء)، إذ تضاف فوارق ذلك إلى السعر النهائي لهذه السلعة.
وكانت الشركة اليمنية للغاز في صنعاء قد أعلنت الأسبوع الماضي ضبط أكثر من أربعة آلاف أسطوانة غاز، بعضها غير مطابق للمواصفات والمقاييس دخلت البلاد عبر التهريب، وتشكل خطراً على حياة المواطنين لكونها معرضة للانفجار في أي لحظة، إضافة إلى 600 صمام مهرب رديء الصنع وغير مطابق للمواصفات.
وحسب مصدر مسؤول في الشركة، صودرت الكميات المضبوطة التي تعتبر تالفة، حفاظاً على سلامة المواطنين، وكذا العمل على مدار الساعة لتوفير احتياج المواطنين من مادة الغاز. وتكشف جمعية حماية المستهلك اليمنية أن عملية صيانة الأسطوانات التالفة محدودة للغاية، في حين هناك أهمية لتغيير واستبدال مئات الآلاف منها خلال عام أو عامين وإعادة تشغيل مصنع الأسطوانات.
ويوضح توفيق البحري، تاجر أسطوانات غاز، لـ"العربي الجديد"، أن خطر الأسطوانات التالفة لا يقتصر على الاستخدام، بل يمتد إلى سرعة نفاذ الكمية نتيجة لتسربها بسبب الخلل الحاصل في القنينة وتلفها، فيما لا يستطيع كثير من المواطنين اليمنيين شراء أسطوانات جديدة بسبب تردي الوضع المعيشي لنسبة كبيرة منهم.
من جانبه، يتحدث موزع لمادة الغاز في مدينة تعز، فضل عدم ذكر اسمه، عن مشكلة أخرى تسبب ارتفاع الأسعار، هي النقل بين مواقع الإنتاج في مأرب إلى مراكز التوزيع الرئيسية ومن ثم إلى مراكز المدن، وذلك لطول المسافة ووعورة الطرق والتقطعات التي تحصل من وقت إلى آخر ونقاط الجبايات المنتشرة التي يعتبر كثير منها غير قانوني.
ويقول هشام العامري، بائع غاز في شبوة جنوبيّ اليمن، لـ"العربي الجديد"، إن هناك خللاً في عملية التوزيع والحصص المخصصة للمحافظات، كما هو الحال بالنسبة إلى محافظة شبوة التي تعاني عدم الحصول على حصة كافية من الغاز تغطي احتياجات المحافظة، إضافة إلى المماطلة بحسب تعبيره من قبل الجهة الحكومية المختصة في تسليم الحصص بمواعيدها المحددة.
الأزمة تطاول قطاعات إنتاجية وخدمية
وطاولت الأزمة قطاعات إنتاجية وخدمية، ومنها المطاعم، إذ يقول رئيس نقابة عمال المطاعم محمد عوفان لـ"العربي الجديد"، إن أزمة الغاز وانعدام توافره يسببان ارتفاع أسعار الوجبات كثيراً، وتوقف العديد من المشاريع العاملة في مجال إنتاج الغذاء.
ويضيف عوفان أن هناك انخفاضاً في نسبة المشاريع في هذا الجانب بسبب تخوف المستثمرين من أزمات الغاز واحتكاره، إضافة إلى ارتفاع أسعار الكهرباء، إذ يستند عمل قطاع المطاعم بدرجة رئيسية إلى الغاز والطاقة الكهربائية.
في المقابل، تقول وزارة النفط والمعادن اليمنية، إن الوضع التمويني للمشتقات النفطية والغاز في السوق المحلية بمختلف المحافظات مستقر، وهناك احتياطي مناسب لتغطية الاحتياجات لفترة جيدة، وذلك بعد القيام بالتوسعة التي نفذتها شركة صافر في منشآت الغاز المنزلي، بما يمكنها من تغطية السوق المحلية ورفع كمية الإنتاج.
ووجهت الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً الجهات المختصة بأهمية الاستمرار في بناء احتياطيات من المشتقات النفطية والغاز المنزلي لتغطية احتياجات السوق المحلية في مختلف المحافظات، وضبط سعر البيع للمواطنين وتشديد الرقابة من قبل السلطات المحلية والجهات المعنية، والقضاء على السوق السوداء أو أي وسطاء يعملون على رفع الأسعار.
لكن الباحث الاقتصادي مختار السعيدي، يقول إن هناك مشكلة كبيرة تتعلق بمواقع الإنتاج من مادة الغاز المنزلي التي تعاني من مشكلة مزمنة في ارتفاع الفاقد وتهالك المنشآت وتقادمها، إضافة إلى الصراع الدائر في اليمن وما ترتب عنه من انقسام مالي، وفي العملة المتداولة وفوارق سعر صرفها، وكلها تبعات ساهمت في تفاقم أزمة غاز الطهو في اليمن وانعكاسها على معاناة اليمنيين وتردي أوضاعهم المعيشية.