[ شركة صرافة في صنعاء (فرانس برس) ]
ما إن تنفست الأسر اليمنية الصعداء من انحسار تداعيات جائحة كورونا على ذويها في بلدان الاغتراب، ومن قبلها التسريحات التي طاولت شرائح من العاملين اليمنيين في دول الخليج خلال أزمة تراجع عائدات النفط، حتى أطلّت أزمة الطاقة في أوروبا وأميركا الشمالية التي كان لها بالغ الأثر على ارتفاع تكاليف المعيشة، ما أثر بشكل كبير على تحويلات اليمنيين إلى أسرهم في البلد الذي هوى أكثر من ثلثي سكانه إلى قاع الفقر خلال سنوات الحرب.
ووفق محللين اقتصاديين، فإن تحويلات المغتربين اليمنيين من الدول الأوروبية وأميركا الشمالية تشكل حوالي 35% من إجمالي التحويلات إلى اليمن، بينما تأتي النسبة الأكبر من بلدان الخليج العربي، الذي يتخوف الكثير من اليمنيين من تقلص أعدادهم في ظل سياسات التشغيل التي تتبناها العديد من دول الخليج منذ سنوات، والرامية إلى توطين الوظائف تدريجياً وتقليص أعداد الوافدين.
مئات آلاف الأسر
وبدت مظاهر التقشف على أسر المغتربين في اليمن تتضح خلال الأشهر الأخيرة، إذ تأثرت جميع قطاعات الغذاء، بما في ذلك طحن الحبوب ومعالجة البن، وفق مصادر تجارية يمنية.
وتشكل التحويلات مصدراً مهماً لدخل مئات آلاف الأسر، وبالتالي تساهم في تنشيط الطلب الكلي في الاقتصاد وتصبح دخولا متاحة لسلسلة من مقدمي السلع والخدمات.
وتشير بيانات مصرفية إلى أن قيمة تحويلات المغتربين بلغت عام 2015 حوالي 3.3 مليارات دولار، لترتفع قليلاً إلى 3.7 مليارات دولار في 2016، وظلت مستقرة عند هذه المستويات في العامين اللاحقين، حتى بدأت في الانخفاض عام 2019 إلى ما دون 3 مليارات دولار، لتنهار بنحو 70% عن هذه المستويات في 2020 الذي شهد انتشار وباء كورونا عالمياً.
وبرزت تحويلات المغتربين كمورد رئيسي وحيد متبقٍّ في اليمن بعدما تسببت الحرب والصراع الدائر في البلاد في توقف مختلف الموارد العامة السيادية، وشكّلت عاملاً أساسياً في عدم انزلاق البلاد إلى أتون المجاعة الشاملة رغم الأزمة الإنسانية المتفاقمة والتي تعد الأكبر على مستوى العالم وفق تصنيف الأمم المتحدة.
ويقول الخبير الاقتصادي اليمني جمال حسن العديني، لـ"العربي الجديد"، إن تحويلات المغتربين كانت من أهم مصادر العملة الصعبة في اليمن طوال سنوات الحرب إلى جانب المساعدات والتمويلات الخارجية، لذا يشكل اهتزازها وانخفاضها صدمة للاقتصاد اليمني محدود الموارد، ويؤثران كثيراً على جهود ضبط سوق الصرف وتغطية الطلب على الدولار للاستيراد والحد من تهاوي العملة اليمنية.
ويضيف العديني أن التأثير طاول الأسر التي تمثل التحويلات أهمية بالغة لعيشها، بعد فقدان مختلف مصادر الدخل المتاحة، لذلك فإن تضرر التحويلات، سواء لظروف المعيشة في بلدان الاغتراب أو فقدان فرص العمل والعودة إلى اليمن، يساهم في توسع رقعة الفقر والجوع والبطالة.
وتساهم أزمة الطاقة في إضعاف الاقتصادات الأوروبية بشكل خاص، إذ تقوض ميزانيات المستهلكين وتهدد بالتسبب في انكماش اقتصادي. وبلغ التضخم في منطقة اليورو مستوى قياسياً في أغسطس/ آب، مسجلاً 9.1% على أساس سنوي، حسب بيانات صادرة عن مكتب المفوضية الأوروبية للإحصاء (يوروستات)، الأربعاء الماضي.
وتُعدّ هذه الأرقام الأعلى في تاريخ مستويات التضخم التي يسجلها يوروستات منذ يناير/ كانون الثاني 1997. إذ تسببت الحرب في أوكرانيا والعقوبات المتبادلة بين روسيا والدول الأوروبية في ارتفاع أسعار المواد الغذائية وموارد الطاقة.
التضخم في منطقة اليورو
ووفق مركز "كابيتال إيكونوميكس" للأبحاث الاقتصادية، فإن التضخم في منطقة اليورو سيزداد أكثر في الأشهر المقبلة وقد يبلغ 10% قبل نهاية العام، متوقعاً ارتفاع أسعار الغاز والمواد الغذائية. ويؤدي ارتفاع تكلفة المعيشة إلى إلحاق الضرر بالشركات والأُسر في المنطقة. وارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 10.6% على أساس سنوي الشهر الماضي.
في السياق، يؤكد الخبير الاقتصادي وحيد الفودعي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن التداعيات الناتجة عن الحرب الروسية في أوكرانيا أثرت على المغتربين بشكل عام من حيث ضعف النشاط الاقتصادي وارتفاع معدلات التضخم العالمية وأسعار الطاقة.
ويشير الفودعي إلى أن هذه التطورات تؤثر حتماً على تدفقات التحويلات إلى اليمن، خصوصاً من الولايات المتحدة وأوروبا، حيث تشكل التحويلات من الدول الأوروبية وأميركا الشمالية حوالي 35% من إجمالي التحويلات الواردة إلى اليمن.
وأظهر تقرير حديث صادر عن المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية أن الأسر الأكثر فقراً في اليمن تعاني من خسارة فادحة في الدخل تقارب 21%، بسبب اعتمادها المرتفع على التحويلات بشكل أساسي مصدرَ دخلٍ وحيد.
وتعاني الأسر الريفية من خسائر دخل أعلى قليلاً من الأسر الحضرية، باعتبارها من الشرائح الأفقر في المجتمع وتستحوذ على حصص أعلى من التحويلات.
ويعرب أستاذ الاقتصاد في جامعة تعز محمد قحطان، في تصريح لـ"العربي الجديد"، عن قلقه من الأضرار المجتمعية الناجمة عن ارتفاع معدلات البطالة والفقر بصورة حادة بسبب استمرار الحرب وانقطاع الرواتب وتضاؤل القيمة الشرائية لأصحاب الدخول المحدودة.
ارتفاع أسعار السلع الأساسية
كما تسببت الحرب في أوكرانيا في زيادة أسعار السلع الأساسية، وهو ما فاقم التهديدات التي تواجه اليمنيين في الوصول إلى الغذاء في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتردية بالفعل.
وتفاقم أزمة الرواتب الأوضاع المعيشية. إذ قال الخبير الاقتصادي ياسين القاضي، في تصريحات سابقة لـ"العربي الجديد"، إن التلكؤ في حل مشكلة رواتب الموظفين المدنيين المعلقة منذ نهاية العام 2016، يراكم مضاعفات الفقر وتبعاته القاتمة على المجتمع والدولة، ما يصعب التعامل معها مستقبلاً في حال إحلال السلام في البلاد.
ووصلت نسبة الفقر في اليمن وفق تقديرات رسمية إلى نحو 80% من السكان، مقارنة بنحو 49% في آخر عام قبل اندلاع الحرب عام 2015، فيما يعاني أكثر من 20 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي، ويحتاج 17 مليوناً إلى مساعدات لتلبية احتياجاتهم اليومية، وفق الأمم المتحدة.
ومنذ بداية إبريل/ نيسان 2015، توقف تصدير النفط الخام والغاز الطبيعي المسال (المصدر الرئيسي للإيرادات المالية في البلاد) باستثناء تصدير كميات محدودة من النفط الخام، ما ساهم بقوة في تقليص تدفق النقد الأجنبي إلى البلاد وتدهور العملة الوطنية.
وتآكلت احتياطيات النقد الأجنبي للدولة تدريجياً وتخلى البنك المركزي اليمني عن تمويل استيراد السلع الأساسية والوقود على مراحل، لتمثل تحويلات المغتربين طوق النجاة، خاصة مع انحسار الدعم الخارجي لملايين الأسر المتضررة من الحرب.
كما تسبب الصراع، الذي تركز منذ مطلع عام 2020 في الجانب الاقتصادي، بانقسام المؤسسات المالية والنقدية، وتجزئة العملة المحلية، عدا عن فوارق في سعر صرف العملات الأجنبية التي تتداول بسعرين مختلفين في كل من صنعاء وعدن، إذ تصل نسبة الفارق إلى حوالي 100%، حيث بلغ نحو 1129 ريالا للدولار وفق السعر المتداول في عدن العاصمة المؤقتة للحكومة اليمنية، قبل أيام، فيما يدور سعر الصرف في صنعاء الخاضعة لسيطرة الحوثيين حول 569 ريالاً.
20 مليار دولار من المساعدات
وعلى الرغم من تقديم أكثر من 20 مليار دولار من المساعدات الإنسانية لليمن منذ اندلاع الحرب، وفق تقرير صادر عن مركز الأبحاث العربي "عربية برين ترست" الذي أعدته مجموعة من الخبراء الاقتصاديين اليمنيين والدوليين، وحصلت "العربي الجديد"، على نسخة منه، إلا أن أكثر من نصف اليمنيين يعانون من الجوع بسبب الصراع.
ووفق التقرير فإن "المشكلة الأكبر تمثلت في توقف الاقتصاد الوطني عن توليد فرص العمل، ما يجعل توسع البطالة من أهم العوامل التي تتجسد فيها كلفة الأزمات الاقتصادية، لذا لا حلول مجدية بعيدة عن تشخيص دقيق للأزمات وإعطاء الأمل للناس بفرص عمل يقتاتون منها"، مشيراً إلى ضرورة فتح فرص في قطاعات جديدة مع توفير الوظائف للعمالة الماهرة وتعزيز الإنتاج الغذائي المستدام.