عودة مرة أخرى للهتافات وللمظاهرات المليونية في السودان ، رفضا للقرارات الأخيرة لقائد الجيش عبد الفتاح البرهان وهي التي أتت بوصفها انقلابا على الحكومة الانتقالية بقيادة عبد الله حمدوك .
سيطرت هذه الهتافات وغيرها على المشهد السوداني منذ الخامس والعشرين من أكتوبر وهو اليوم الذي أعلن فيه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان انقلابه على الحكومة الانتقالية بقيادة عبد الله حمدوك وحل مجلسي السيادة والوزراء وإعلان حالة الطوارئ ، إلى جانب قطع خدمة الإنترنت في البلاد ، واعتقال عدد من المسؤولين بينهم قادة أحزاب سياسية ووزراء إلى جانب عضو مجلس السيادة محمد الفكي سليمان .
جاءت خطوة البرهان لتكمل ملامح مشهد كانت معالمه واضحة طوال الفترة التي سبقت الخطوة الأخيرة التي كانت بمثابة الخاتمة لسلسلة من الممارسات التي وصفت بأنها تمهيد لهذا الانقلاب .
هذه الممارسات تمثلت في أحداث نظمت و أثرت بشكل واضح على السلطة الانتقالية وسعت لإفشالها ، قادها عدد من أنصار النظام السابق الذين أبدوا ولاءهم الكامل للبرهان ، انخرط هؤلاء في تشكيل مجالس قبلية سعت لفرض آرائها والادعاء بأنها الممثل الشرعي الوحيد لأقاليمها وأبرز هذه الكيانات ما عرف بمجلس نظارات البجا وهو كيان يضم عددا من أنصار النظام السابق وكان لهم دور كبير في التمهيد للانقلاب عبر إغلاقهم للموانئ الرئيسية في السودان وإجراءاتهم التي كان لها تأثير كارثي على الوضع الاقتصادي مما أدى لتفاقم الأزمة في السودان ، كما لعبوا دورا في إشعال أزمة خطاب عنصري في شرق السودان.
كيانات أخرى لعبت دورا في التمهيد للانقلاب عبر اللعب على وتر التفرقة المناطقية مثل كيان الشمال ومنبر البطانة وكيانات أخرى.
الجامع بين هذه المجالس و الكيانات العشائرية هو سياسة "البروباغندا" التي تتبناها لتوهم الرأي العام السوداني بأنها ممثلة شرعية لأقاليمها ، في حين إن الشعب في تلك المناطق لم يفوضها لتمثيله بل يرفض قطاع واسع من شعوب تلك المناطق لسياسات هذه المجالس التي لا تخدم الوحدة الوطنية.
"لا وصاية للجيش والشعب هو من يحدد مصيره "
تصريح لعضو مجلس السيادة محمد الفكي سليمان السابق ، في معرض رده على تصريحات للبرهان مطلع أكتوبر الماضي ، ترجم الشعب معاني هذه الكلمات بخروجه غير المسبوق في مليونية 30 أكتوبر رفضا "لانقلاب البرهان" وخطواته التي يعتبرها المتظاهرون تعطيلا لمسار الانتقال وعودة للنقطة الأولى من جديد
"لقد تعبنا يا صديقي ولكن لا يمكننا الاستلقاء أثناء المعركة"
هي كلمات كتبها عبد العظيم -أحد ضحايا ثورة ديسمبر- في حسابه في فيسبوك والناظر إلى السودانيين في مليونياتهم الرافضة للحكم العسكري منذ 25 أكتوبر حتى الآن يدرك أن نفس الشعب طويل جدا وأن عزيمته وإصراره لا حدود له رغم القمع المفرط وارتفاع حصيلة الضحايا كل صباح إلى أن وصلت في آخر إحصائية نشرتها لجنة أطباء السودان المركزية إلى 44 متظاهرا سقط العدد الأكبر منهم في "مجزرة 17نوفمبر"
"نخاف على ثورتنا من النخب"
عبارة قالها عبد السلام كشة وهو أحد ضحايا مجزرة القيادة العامة ، وفيها مطابقة لحال الحراك السوداني الجديد الذي بدأ بمنهجية مختلفة فهو يرفض الشراكة مع الجيش ويؤكد على تطلعه للحكم المدني الكامل ، في معارضة لمساعي قوى الحرية والتغيير مجموعة المجلس المركزي للعودة لما كان عليه الوضع قبل قرارات البرهان .
وفي هذا تعبير واضح عن رؤية جديدة بدأت تتشكل في أذهان الشباب الثوري الذي التف من جديد حول "لجان المقاومة" بعد فترة كان الصوت الأعلى فيها هو صوت قوى الحرية والتغيير التي شكلت مع شراكتها مع المكون العسكري مرحلة انتقالية صاحبتها الأخطاء ولاقت انتقادات واسعة في صفوف الشباب الثوري وبشكل أخص في لجان المقاومة التي تعتبر صاحبة الدور المحوري في إسقاط نظام البشير ، بدأت هذه اللجان في العمل مع القواعد وتوجيهها نحو تبني أهداف التحول الديمقراطي الحقيقي لا الشعارات التي أفقدها تداول السياسيين المستمر لها قدرا من معناها وأصبحت للاستهلاك السياسي لا للعمل الحقيقي.
وهنا بدأ الحراك الجديد يتمتع بقدر أكبر من الحرية إذ إنه لا يحاصر بضغوط قوى الحرية والتغيير بل يحيط به الثوار يوجهونه نحو أهدافهم الكاملة التي لم يجدوا لها تطبيقا في الفترة السابقة وذهبهم بعضهم بعيدا لاتهام قوى الحرية والتغيير أنها باتت ذراعا مدنيا يقدم قدرا كبيرا من التنازلات للعسكريين وهو ما ظلت تنفيه قوى الحرية والتغيير وربما يندرج هذا في إطار الاختلاف حول درجات "الواقعية السياسية"
"داعمو الانقلاب ...السقوط في فخ دعم العسكر"
برزت تيارات سياسية مدنية وعسكرية وعشائرية دعمت قرارات البرهان والجامع الوحيد بينهم سعيهم للاستئثار بمواقع في كعكة السلطة دونما اهتمام بموقف الشعب.
اجتمعت هذه القوى في ما عرف بمجموعة الميثاق الوطني وهي تيارات بها أحزاب وحركات مسلحة رأت أن دعم الجيش أفضل بالنسبة لها من الوقوف مع خيار الشعب في الوصول للحكم المدني الكامل في نهاية الفترة الانتقالية .
اتفاق البرهان وحمدوك "طعنة في الظهر للحراك الثوري"
وقع رئيس الوزراء الانتقالي عبد الله حمدوك اتفاقا في 21 نوفمبر مع قائد الجيش قضى بعودته رئيسا للوزراء وإطلاق سراح المعتقلين وإلغاء بعض قرارات البرهان الأخيرة ،لكن الشعب رفضه ووصفته لجان المقاومة و تجمع المهنيين ب"الخيانة للثورة" .
خطوة حمدوك تعني استمرار حراك السودانيين الرافض للحكم العسكري والرافض للشراكة مع العسكر ، والمختلف في هذا الحراك أن الشعب قد تحرر من قيود رهن آرائه لجهات بعينها فهو رافض لموقف قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي و رافض لقوى الميثاق الوطني ، متمسك بثورته ضد الحكم الاستبدادي .
ماذا بعد اتفاق 21 نوفمبر
يتطلع السودانيون للمرحلة القادمة وهم متمسكون بمسار ثورتهم ، إذ تواصلت المظاهرات الحاشدة التي شارك فيها عشرات الآلاف عقب توقيع اتفاق البرهان-حمدوك . ولم يتأثر الحراك الثوري بموقف حمدوك الجديد ، في ظل موقف لجان المقاومة الذي ترجمته بياناتها التي أكدت رفضها ومعارضتها الصلبة لموقف حمدوك الذي وصفته ب"الخيانة" وأبدت سعيها الحثيث لإسقاط الاتفاق وبناء ما سمتها ب"السلطة المدنية الكاملة" .
المختلف في حراك الفترة الحالية عقب 25 أكتوبر هو غياب القيادة السياسية إذ تحررت الفصائل الشبابية الثورية من قيد احتكار تمثيلها السياسي عبر قوى الحرية والتغيير وأبدى الناشطون الثوريون تمسكا قويا بالعودة للجان المقاومة التي هي الممثل الحقيقي للثوار بعد فشل أنموذج الشراكة الذي تبنته قوى الحرية والتغيير وفشلها في تقديم مشروع يؤسس لديمقراطية . كما برزت اتهامات الثوار لها بنسيان قضايا ضحايا الثورة وضحايا مجزرة القيادة العامة والمجازر اللاحقة لها عبر البطء الذي صاحب مسار العدالة .
مشهد ضبابي يواجه الحراك السوداني الثوري المتجدد فهل يصل السودانيون لتحقيق آمالهم قريبا؟