[ زعيم الحوثيين عبدالملك الحوثي ]
في عام 2004، اُغتيل "حسين بدر الدين الحوثي"، شيخ المرجعية الزيدية في اليمن، وزعيم حركة أنصار الله، وهي جماعة تأسست في تسعينيات القرن الماضي لحماية الأقلية الزيدية الشيعية، وإحياء الإمامة الضائعة من الهاشميين الذين حكموا اليمن أكثر من ألف سنة قبل تأسيس الجمهورية اليمنية عام 1962. ورغم احتفاظ "الزيدية السياسية" بمقاليد حُكم اليمن عقب وصول أحد أبناء المذهب إلى سُدة الحكم، ممثلا بالرئيس المقتول "علي عبد الله صالح"، فإن الحوثيين لطالما اعتبروا أنفسهم مهددين تحت ظل راعي الأغنام السابق الذي أجاد المراوغة وتحالف مع السعودية -الجار السني الكبير- ضدهم، وعقب مقتل أحد أهم رجالات الحركة وأكثرهم نفوذا، باتت الجماعة كلها في مهب الريح.
من بين الدائرة القريبة من القادة حول "حسين بدر الدين الحوثي"، لم يكن يُنظر لأخيه الأصغر "عبد الملك الحوثي" على أنه مُرشح محتمل يمكن أن يتولى زعامة الحركة في وجود آخرين أكثر منه سطوة وتأثيرا. وعلاوة على ذلك، لم يتلقَّ عبد الملك أي تعليم نظامي، على عكس قادة الصف الأول، فلم يكن سوى حارس أخيه رغم بنيانه الجسدي الهزيل، حتى إنه لم يكن معروفا للكثيرين خارج مجموعته الضيقة التي استقبلت نبأ توليه قيادة الجماعة بالشكوك حول مصير الحركة بعد أن فقدت زعيمها الروحي. لقد وصل إلى قمة الحركة الآن أمير هادئ غابت ثقة الداخل في أهليته للاضطلاع بمهام المنصب الذي خصَّه به أخوه، دونا عن كبار القادة، ومنهم أعمامه وإخوته.
ربما لم يكن يحسب أحد آنذاك، حتى داخل دائرته المصغرة التي اكتنفتها السرية، أن الحوثي الشاب الأقل خبرة، والأصغر سنا (لم يتجاوز عمره وقتها 25 عاما)، سينجح لاحقا ببراغماتية شديدة الدهاء في انتزاع اعتراف من الحكومة اليمنية بعدم شرعية الحروب التي شُنت عليهم، وسيقود شراكة غريبة من نوعها بالتحالف مع قتلة أخيه من أجل تغيير مسار الثورة اليمنية لصالح جماعته، كما يُعتقد حاليا -باعتراف خصومه- أنه الوحيد الذي يملك مفاتيح إنهاء الحرب في اليمن بعدما جاوزت عامها السابع، دون أن تتحقق أي من أهدافها.
بمجرد أن تولى عبد الملك الحوثي منصبه الجديد رسميا عام 2006، استكمل ما عجز عنه أخوه، وبدأ بتجاوز الحصار العسكري المفروض على رجاله من قبل الجيش اليمني، كما نجح في تخطي عيون الوشاة التي تتبعت أثره أينما حل وارتحل، بعدما تحصَّن لفترة غير معلومة في جبال محافظة صعدة شمالي اليمن، حيث وُلد قبل نحو 42 عاما لأسرة دينية فقيرة تولت تدريس العلوم الفقهية، وصارت مرجعية المذهب الزيدي لعقود.
نشأ الطفل مع أبويه متنقلا وسط أنحاء ريفية نائية غابت فيها العدالة الاجتماعية وسُلطة الحكومة المركزية، وارتفع فيها صوت الاحتياج المادي، واحتكرت فيها طبقات وأحزاب بعينها المناصب السياسية. وفي ظروف صبغت حياة الكثيرين من حوله، لم يحظَ عبد الملك الحوثي بأي تعليم نظامي، فبُنِيت خلفيته الثقافية على دروس المسجد وقصص تاريخ الهاشميين الضائع، إلى جانب تعاليم المذهب الزيدي الذي يتبنى نهج الخروج على الحاكم الظالم، وهي مواقف ترسم صورة أشمل لشخصية الزعيم الحوثي الذي غيّر صعوده وجه اليمن.
تشكلت قناعات زعيم الحوثيين الفكرية والسياسية بعيدا عن صعدة، وفي موقع جغرافي مختلف عن الحياة البدائية التي عاشها طفلا، إذ انبهر عبد الملك بأضواء العاصمة اليمنية صنعاء حين استقر بها شابا للعيش مع أخيه الأكبر "حسين بدر الدين"، صاحب الهيئة الريفية المصحوبة بسمت ديني محافظ. وقد أضاف الأخ الأكبر بُعدا أكثر بريقا لأخيه، لا سيما أنه أكمل التعليم الجامعي وحصل على الماجستير في العلوم الشرعية، كما خلق لنفسه مسارا سياسيا خالصا حين أصبح عضوا في البرلمان اليمني. مثَّلت تلك معطيات استثنائية استطاع بها الأخ الأكبر تأسيس تنظيم سياسي عام 1933 تجاوز به فكرة الدعوة الدينية، وانتقل بها إلى نموذج الحركة الأكثر مؤسسية بوصفه سبيلا وحيدا لإحياء الإمامة الهاشمية. أما الشاب المصنوع على عين أخيه، فقد اكتسب تلك الأفكار جرعة واحدة حين كان يعمل حارسا شخصيا لأخيه الأكبر.
بمقتل حسين بدر الدين الحوثي، ورفض تسليم جثمانه، تسلم عبد الملك الحوثي منصبه وهو في حالة حرب مع الحكومة اليمنية اندلعت عقب اتهامات للحركة بتأسيس كيان مُسلح على غرار حزب الله اللبناني. وفيما عُدَّ الاتهام سببا كافيا للرئيس اليمني كي يتخلَّص من الحوثي، إلا أن الجيش اليمني واجه مقاومة وتفوقا عسكريا لم يكن في الحسبان وَضَعَ علي عبد الله صالح في موقف حرج. فيما تقول الرواية الأخرى التي كشفها قادة ميدانيون شاركوا في الحرب أنّ "صالح" رتّب ليُظهر أعداءه في صورة المقاوم الشرس، ومن ثَم إجبار دول الخليج على الالتفات إليه ودعمه ماليا. ولم يكن ذلك سهلا بالنظر للتاريخ المتوتر بين اليمن والخليج، فقد شُنَّت حملة خليجية شرسة ضد اليمن بسبب تأييد علي صالح للرئيس العراقي الراحل صدام حسين أثناء احتلال الكويت، ورفضه تشكيل قوة ردع عربية، ثم رفضه عام 2003 قرارا عربيا دعا لإقصاء صدام من المشهد السياسي مقابل عدم غزو واشنطن العراق.
بيد أن خطة علي عبد الله صالح في استمالة الخليج نجحت في الأخير، فحصل على دعم أميركي خليجي غير محدود. على الجانب الآخر، تعاظمت شوكة القائد الشاب الحوثي عسكريا، وازداد مهابة بين أنصاره، فخاضت الحركة منذ تأسيسها حتى عام 2011 ست حروب ضد الحكومة، دون أن يتمكن الرئيس اليمني من إخضاع زعيمها بقوة السلاح أو طرق السياسة. ورغم تدفق المال الخليجي، أنهكت الحرب الاقتصاد اليمني، وكبدته خسائر بنحو خمسة ملايين دولار يوميا، أسهمت فيما بعد في إسقاط حُكم علي صالح عقب اندلاع الثورة في فبراير/شباط من العام نفسه. وبينما اشتعل الوضع في مناطق الحكومة المركزية، حوَّل الحوثيون أنفسهم داخل مناطق نفوذهم من ميليشيا إلى دولة محلية تحكم الجزء الأكبر من شمال اليمن، دون أن تتمكن الحكومة اليمنية من بسط سيطرتها هناك.
حين اندلعت الثورة اليمنية في فبراير/شباط عام 2011، شاركت حركة أنصار الله في التظاهرات ضد عدوها التاريخي علي عبد الله صالح، على أمل أن تفرز الثورة وضعا سياسيا جديدا يمهد لانفصال الشمال عن الجنوب، ما يسمح للزعيم الشاب بإعادة الحُكم الهاشمي القديم في اليمن الشمالي. وبعد عامٍ من الثورة، وصل الرئيس المؤقت "عبد ربه منصور هادي" إلى السُلطة في انتخاباتٍ لم تسع أكثر من مرشحٍ واحدٍ، ليمثل صعوده وقتها انتصارا رمزيا للجنوب اليمني الذي تخلى للتو عن أحلامه الانفصالية بوصول أحد أبنائه للحكم لأول مرة منذ الوحدة اليمنية عام 1990.
أفرز وصول الجنوبي السُني إلى صدارة السُلطة المركزية مخاوف مذهبية لدى أقلية الشمال الزيدي من زحفٍ سُنيٍ صوب معاقلهم، وعمَّق تلك المخاوف ما شهده العهد الجديد من صعود نخب سياسية معادية لمعسكر الحوثي مذهبيا وسياسيا ممثلة في حزب التجمع اليمني للإصلاح، المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين، وهو الوضع الذي أفرز قناعة لدى الحوثيين مفادها أن وجود صنعاء خارج سيطرتهم، في ظل الحكم الجديد، يمثل خطرا على مستقبلهم السياسي في اليمن. لذا، أعلن عبد الملك الحوثي أولى معاركه بطرد السنة من قلعتهم السياسية، فخاض معارك مسلحة في محافظة صعدة انتهت بإجبار خصومه على مغادرة المحافظة صوب العاصمة.
تقاطعت الأحداث في صعدة مع تحركات الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح لإفشال الحكم الوليد، وبينما كانت قوات "علي محسن الأحمر"، الجناح العسكري لحزب الإصلاح، هي العدو المشترك الذي يجمع عبد الملك الحوثي بقاتل أخيه، حدث التقارب الأبرز الذي غيَّر مسار الثورة اليمنية، وتمثل في تقديم صالح الدعم العسكري للحوثيين عبر قوات الحرس الجمهوري والقوات الخاصة اللتين تدينان له بالولاء، وذلك من أجل كسر شوكة حركة الإصلاح، والسيطرة على العاصمة صنعاء، والانقلاب على الرئيس اليمني عبد ربه منصور أواخر ديسمبر/كانون الأول عام 2014. وصل الثنائي إذن المحطة الأخيرة في التحالف بينهما عبر تشكيل مجلس رئاسي، وعمد الحوثيون للتفرد بالسلطة الجديدة في صنعاء دون منح شريكهم علي عبد الله صالح أي نفوذ داخلي يُمكّنه من الانقلاب عليهم، وهو السيناريو الذي طالما راود زعيم الحوثيين.
أمام خيانة صالح للمبادرة الخليجية التي منحته خروجا آمنا من السلطة بتحالفه مع الحوثيين، أعلنت السعودية غضبها بإعلان العملية العسكرية "عاصفة الحزم" في مارس/آذار عام 2015، التي هدفت بها إلى إعادة الشرعية اليمنية للرئيس هادي وطرد الحوثيين من صنعاء. على الجانب الآخر، لم يكن عبد الملك الحوثي يثق بقاتل أخيه وحليف الضرورة، علي عبد الله صالح، فقد أظهر الرجل مرارا أن لا مشكلة لديه في فض التحالفات واستبدالها بأخرى ما دامت السياسة البراجماتية تخدم مصالحه المتمثلة في البقاء داخل المشهد اليمني. وأكدت ذلك مؤشرات صريحة تمثلت في التحرك السعودي-الإماراتي الرسمي لدفع صالح إلى فض شراكته مع الحوثيين وإنهاء حرب اليمن، مقابل عودته مرة أخرى إلى الحياة السياسية. وقد أنقذت السعودية حياة الرئيس اليمني السابق مرتين بالفعل، إلى جانب الحديث عن صفقات سرية تمنح أبناءه حكم اليمن مقابل إنهاء شراكته مع الحوثي.
في تلك اللحظة، كان عبد الملك الحوثي قد أعد خطته جيدا للانتقام من قاتل أخيه، والثأر من خيانة صالح له. وعقب إعلان الرئيس اليمني المخلوع أنه سيدفع الحوثيين لوقف إطلاق الصواريخ على السعودية، في إشارة إلى نهاية التحالف الذي غيَّر مسار الثورة اليمنية، والانتقال إلى مرحلة سياسية جديدة، اندلع القتال بين الفريقين داخل صنعاء، لكن الفوز لم يكن حليف صالح في معركة بدا أن الحوثي استعد لها جيدا. بدأ الأمر بتفجير منزل صالح وسط صنعاء، وسرعان ما انتهى استهداف موكبه وإعدامه رميا بالرصاص، لتبدأ حقبة جديدة في القضية اليمنية، يمتلك فيها عبد الملك الحوثي وحده مقاليد الأمور تماما.
لم يكن للحوثيين قبل استيلاء زعيمهم الشاب على العاصمة اليمنية صنعاء خبرة كافية تمكنهم من العمل السياسي حال استطاعوا فرض وصايتهم على مناطق نفوذهم في الشمال اليمني، فكل ما أجادوه هو المواجهات العسكرية على الأرض فحسب. بيد أن الانقلاب الذي شنه عبد الملك الحوثي أواخر عام 2014 بالسيطرة على العاصمة التي أبهرته أضواؤها في صباه، ومعها 11 محافظة أخرى من أصل 22، تطلّب من الحركة الدفاع عن مكتسباتها مهما تكلف الأمر. وبعد سبع سنوات من الحرب باهظة التكاليف والعواقب، يبدو أن الواقع السياسي والعسكري في اليمن قد رجحت كفته بالفعل لصالح الحوثيين، لكونهم يتحكمون بالفعل في معادلة الحرب والسلام حتى اللحظة.
مع دخول السعودية اليمن في مارس/آذار عام 2015، تعرض الحوثي لضربة قوية تزامن معها تقدُّم التحالف العربي وسيطرته على أماكن واسعة دون خسائر تُذكر. لكن الحوثي رغم هزائمه في الجولة الأولى، راهن وأنصاره على أن السعودية بوسعها إشعال الحرب لكنها لا يمكن أن تُنهيها. ومع تقدم السنوات، أثبت الحوثيون أنفسهم باعتبارهم قوة عسكرية لها ثقلها على الأرض، في حين وُضعت الحكومة اليمنية في مأزق، وباتت تمارس مهامها حتى اللحظة من الرياض.
فرض عبد الملك الحوثي على خصومه منذ البداية قواعد الربح والخسارة في اليمن، لا سيما أن المسار التفاوضي لإنهاء الحرب قد ارتبط بالتقدم الميداني من عدمه كما هي سنن الصراعات العسكرية. انتهى الأمر إلى تدخل أممي أسفر عن توقيع اتفاق سياسي، هو اتفاق "ستوكهولم" عام 2018، الذي اعتبر الحوثيين قوة معترفا بها رسميا، وهي الهزيمة السياسية الأكبر لأعداء عبد الملك الحوثي، الذي ترفض واشنطن حتى اللحظة وضع اسمه على قوائم الإرهاب، في دلالة واضحة على أنه يملك وحده مفاتيح وقف الحرب وإشعالها في اليمن.
إلى جانب السياسة، قاد عبد الملك الحوثي أنصاره لتطوير ترسانتهم العسكرية المحلية، وعدم الاكتفاء بالاعتماد على طهران، وهي الرؤية التي قلبت موازين القوة ومسار المعارك، ودفعت السعودية -مضطرةً- للتفاوض مباشرة مع الحوثيين، معتبرة إياهم -لأول مرة- جزءا من الحل بعد سنوات من محاولة إقصائهم. أما التحول الأخير فجاء بعد معطيات سياسية أكثر تعقيدا، إذ يسيطر المجلس الانتقالي، الشريك الرسمي للحكومة فيما يعرف باتفاق الرياض، على مساحات واسعة من الجنوب، ويسعى رسميا للانفصال، وهو الهدف الذي يتناغم مع أهداف أمير صنعاء غير المتوَّج منذ بداية الحرب. ورغم أنه لا أحد يستطيع أن يتنبأ بما ستؤول إليه الأمور في اليمن خلال الأشهر والأعوام القادمة، يعرف الجميع أن الحوثي فرض حضوره على الساحة اليمنية، وحتى إذا لم تحكم جماعته اليمن مباشرة، فإنه سوف يمارس حق "الفيتو" على السياسة اليمنية لسنوات طويلة قادمة.