[ الروائي والمسرحي والقاص اليمني وجدي الأهدل ترجمت أعماله للغات عالمية (الجزيرة) ]
هل يستلهم الأدباء والكتاب عناوين أعمالهم من بين ثنايا السطور والنصوص التي ينجزونها؟ أم ليس ضروريا أن تأتي حرفيا من داخل النص الإبداعي؟ وهل يبدؤون بالعنوان أم يختمون به؟ وهل يقبل الأديب والكاتب أن يضع الناشر عنوانا لكتابه؟
وبما أن العنوان هو عتبة النص، فهل يمكن أن يوجد نص بلا عتبة، وكتاب بلا عنوان؟ أم أن ذلك متعذر؟
وأمام عناوين لكتب ونصوص منجزة لآخرين، هل حدث أن تمنى أديب ما لو أن هذا العنوان أو ذاك من إبداعه؟ ثم ما العناوين الأولى التي أثارت دهشة الكتاب العرب، ولامست وترا في أرواحهم؟ وما الفرق بين عنونة الشعر (كمثال) وعنونة أصناف أدبية وكتابية أخرى كالرواية، والسيرة، والقصة، واليوميات، والنقد، والبحث، والترجمة، والفنون، والعلوم، إلخ…؟
وهل فكرة التناص في العنونة مقبولة، أم أن العنوان إذا وُضع يصير ملكية فكرية لكاتبه؟
الجزيرة نت تفتح هذه الزاوية الجديدة "رحلتي مع العنوان" التي يتحدث فيها أدباء وكتّاب عرب عن حكاياتهم مع "العنوان"، ورحلتهم معه كتابة وتلقيا، وهي محاولة لإفادة القارئ ببعض أسرار الكتابة.
ضيف حلقتنا اليوم الروائي والقاص اليمني وجدي الأهدل، الذي أثرى المكتبة العربية بـ5 روايات و7 مجاميع قصصية ومسرحية وكتابين في السيناريو، وتُرجمت 3 من رواياته إلى الإنجليزية والروسية والفرنسية والإيطالية.
لمسة أخيرة
هناك ارتباط وثيق بين الكتاب وعنوانه، وغالبًا يكون العنوان خلاصة نهائية لمغزى الكتاب. لا أحبذ أن آخذ العنوان بصورة حرفية من أحد السطور، لأن هذا يبدو بالنسبة لي دليلًا على كسل المخيلة. مثلًا في إحدى رواياتي أعجبتني هذه الجملة التي وردت على لسان البطل "بلاد المؤامرات الصغيرة"، لكنني فكرتُ أنها مناسبة للسياق الذي قيلت فيه، ولا تصلح عنوانا للعمل كاملا، فوقع اختياري على عنوان مقارب "أرض المؤامرات السعيدة"، وهو عنوان يشير إلى الاسم القديم لليمن "العربية السعيدة"، ويحمل أبعادًا أوسع بكثير.
وفي جميع أعمالي كان العنوان اللمسة الأخيرة. قد أبدأ بعنوان مؤقت، ولكن بعد إتمام العمل أضع خيارات عديدة لعنوان العمل، وأعمل بحثًا في موقع جوجل، وأعتمد أحدها بعد التأكد من أنه غير مسبوق.
الناشر والترجمة
أقبل اقتراحات الناشر بكل سرور، ومنها اختياره عنوان العمل، ولكن هذا لم يحدث معي في الطبعات العربية من كتبي، ولكنه حدث في النسخ المترجمة، فمثلًا رواية "بلاد بلا سماء"، اقترح البروفيسور وليم هتشينز -الذي ترجم الرواية إلى الإنجليزية- اختيار عنوان مختلف للرواية (A Land without Jasmine)، وكانت حجته مقنعة؛ فبطلة الرواية في النص العربي اسمها "سماء"، ولكنه في النص المترجم إلى الإنجليزية قام بترجمة إبداعية، وسمَّى بطلة الرواية "ياسمين"، وهو اسم شائع في البلدان التي تتحدث الإنجليزية، وهكذا يكون قد تخلص من الترجمة الحرفية، وتصرف بذكاء، وأوصل مغزى العنوان للقارئ باللغة الإنجليزية.
"من قتل بالومينو موليرو؟"
لا أتذكر أنني قرأت كتابًا بلا عنوان، كما لا أتذكر أنني قابلتُ إنسانًا بلا اسم.
وهناك عناوين لكتب منجزة أو نصوص قرأتها، تمنيت لو أنها لي.
ويحدث هذا كثيرًا، مثل عنوان رواية ماريو فارغاس يوسا "من قتل بالومينو موليرو؟" فهو فاتن جدًا، ويقودنا إلى قراءة الرواية بحثًا عن الإجابة. ورواية أخرى لها عنوان بصيغة سؤال هي "لمن تقرع الأجراس؟" لإرنست همنغواي. عناوين روايات نجيب محفوظ الدالة على معلم جغرافي محدد مثل "زقاق المدق" و"خان الخليلي" والثلاثية "بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية" هي علامات مسجلة، ولا يمكن لأحد الاقتراب منها. أحد العناوين التي أحبها كثيرًا خماسية "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف، هذا عنوان عبقري يختزل أحوال الأمة العربية في كلمتين.
"قصة مدينتين"
أما العنوان الأول الذي اصطدمت به في مشوار البدايات ولامس وترًا في روحي، فهو عنوان رواية "قصة مدينتين" لتشارلز ديكنز. أتذكر أنني انبهرت بشدة بهذا العنوان، لقد أوحى لي بعوالم عجيبة، وفتح بوابة من بوابات الخيال في ذهني، كأن أحدهم نطق بجملة "افتح يا سمسم" التي تفتح باب المغارة المليئة بالكنوز.
أما الفرق بين أن تعنون رواية أو أن تعنون كتابًا في صنف أدبي وكتابي آخر كالشعر، والسيرة، والقصة، واليوميات، والنقد، والبحث، والترجمة، والفنون، والعلوم؛ ففي تقديري أن أيّ عنوان ينبغي أن يكون مرتبطًا بمضمون الكتاب. وفي حالة كان الكتاب مجموعة مقالات نقدية -مثلًا- فإن العنوان لا بد أن يكون رصينًا وخاليًا من الخفة والتلاعب بالألفاظ. وبالنسبة للرواية فثمة مجال للظرافة والتلاعب بالألفاظ والإيحاء بمعان متعددة.
على سبيل المثال، اخترتُ عنوانًا ظريفًا لروايتي الثانية "حمار بين الأغاني"، واستخدم أصدقائي هذا العنوان الظريف لتبادل الشتائم، وحدث مرة نزاع بين اثنين من أصدقائي فقال أحدهما للآخر "أنت حمار بين الأغاني"، فرد عليه الآخر بسرعة بديهة "وأنت بغل بين الطبول".
عنوان روايتي الرابعة "بلاد بلا سماء" فيه تلاعب بالألفاظ، فمن لم يقرأ الرواية سيظن إذا مر عليه عنوانها أن المقصود بـ"سماء" السماء التي فوق رؤوسنا، ولكن القارئ الذي أنهى قراءة الرواية سيدرك أن المقصود هو "سماء" بطلة الرواية التي اختفت في ظروف غامضة ولم يعثر عليها مطلقًا.
بين المفارقة والتضاد
كذلك استخدمتُ أسلوب المفارقة والتضاد في عنونة روايتي الأولى "قوارب جبلية"، ومعلوم أن القوارب محلها البحار، وقد أردتُ منذ البداية إيقاع القارئ في البلبلة، منذ العتبة الأولى للنص؛ وهذه حيلة فنية تستخدم بكثرة في الشعر الحديث.
عنوان روايتي الثالثة "فيلسوف الكرنتينة" لم يكن موفقًا، وأشعر الآن بالامتعاض لأنني استجبتُ لرغبة الناشر نبيل عبادي -صاحب مركز عبادي للدراسات والنشر بصنعاء- في التخلي عن العنوان الأول الذي اخترته للرواية، لتخوفه من الرقابة، وكان العنوان الأول الذي عنونتُ به تلك الرواية هو "سيف الله في مانهاتن".
وبشأن "فكرة التناص في العنونة"، بصراحة لم أقم بشيء من هذا القبيل في عنونة كتبي، ولكن هذا لا يعني أن فكرة التناص في العنونة غير مقبولة، بل إنني أجد هذا النوع من العناوين جذابًا جدًّا، مثل عنوان رواية عبد الله عباس الإرياني "الحب في زمن الكلاشينكوف"، وهو عنوان جميل جدًّا، ويحمل تناصًّا مع عنوان رواية "الحب في زمن الكوليرا" للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز.