[ هلال الاشول ]
ترى كيف تبــدو مدينــة تعز اليمنيّة بمعاركها الضـــارية المســتمرة منذ اندلاع الحرب في اليمن 2015، في عيني عالِم يمني يعمل بدأب في مختــبر علمــي في مديـــنة «لوزان» الســويســريّة؟ ماذا يدور في دماغ البروفسور هلال الأشول عندما يراقب على الشـــاشات أخبار مسقط رأسه وهي تطحن في حروب القبائل والنزاعات الإقليميّة، فيما يداه تديران بكفاءة علميّة راقية «مختبر البيولوجيا الجزئيّة والكيماويّة للتآكل العصبي» Laboratory of Molecular and Chemical Biology of Neurodegeneration في مدينة تهجع عند قدميها بحيرة «لوزان» الشهيرة التي تسقيها بصمت مياه تأتي من جبال الألب الشاهقة المحاذية لشواطئها الساكنة؟ كيف تنظر عينا عالِم عربي يهتم بالدماغ ووظائفه التي تتضمن الإدراك والمعرفة والذاكرة، بآليات التغيير التي هبّت مع «الربيع العربي»، ثم تحوّلت حالاً مأسويّة تكاد تستعصي على الوصف؟
... في العلوم والتكنولوجيا
ليست تلك الأسئلة جزافاً، بل ربما ما كانت لترد لولا اهتمام البروفسور الأشول الفائق باليمن وطناً وشعباً ومجتمعاً، بل اهتمامه المستمر بالدول العربيّة أيضاً. تذكّر نظرة الأشول إلى علاقته كفرد مع وطنه، بأسطورة «بروميثوس»: سارق نار المعرفة من رموز الإغريق إلى البشر. ويبذل الأشول جهوداً هائلة في نقل العلم إلى اليمن، لعل أبرزها تأسيسه «الجمعية الأميركيّة للعلماء والدارسين اليمنيين»American Association of Yemeni Students & Professionals. وعلى صدر صفحة الاستقبال في موقع تلك الجمعية على الانترنت (aaysp.org)، تبرز كلمات تتحدّث عنها بوضوح: «نحن منظمة وطنيّة تعزز الابتكار في الدفع بالنجاح التعليمي لليمنيّين الأميركيّين».
ويملك هذا العالِم اليمني- الأميركي وعياً أصيلاً حيال تلك الرغبة الحارقة في نقل العلم إلى الوطن.
ووصف ذلك الأمر مشدّداً على أنّ حافزه الأولي للمثابرة على التقدّم في التحصيل العلمي، تمثّل في الحصول على شهادات علمية، ثم التأثير إيجابيّاً في المجتمع.
وفي سياق عربي متّصل، تعاون الأشول مع «مؤسّسة قطر» Qatar Foundation في صوغ استراتيجيات البحث العلمي فيها، بل عمل مديراً تنفيذيّاً لـ «معهد قطر لبحوث البيولوجيا الطبيّة» Qatar Biomedical Research Institute.
ومع إطلالة 2016، أحدث الأشول نقلة نوعيّة في علاقته مع المسارات العلميّة عربيّاً ويمنيّاً، إذ أطلق «جمعية تقدّم العلوم والتكنولوجيا في العالم العربي»Society for the Advancement of Science & Technology in the Arab World، واختصاراً «ساستا وورلد» SASTA World. وتملك الجمعيّة موقعاً إلكترونيّاً (sastaworld.com)، كما تصدر دوريّة إلكترونيّة إسبوعيّة، تغطي نشاطات العلماء العرب، خصوصاً في المراكز العلميّة المتقدّمة.
والأرجح أنّ من لا يعرف اليمن عن قرب، تفوته قصة العلاقة الخاصة بين الغربة واليمنيين. ربما ترد إلى البال سريعاً تلك السردية المؤثّرة التي رسمها الكاتب اليمني محمد عبد الولي في رواية «يموتون غرباء»، مع الإشارة إلى أن الكاتب نفسه وُلِد غريباً في إثيوبيا، ثم عاد إلى اليمن.
في مقابل تلك المعاناة شبه الصامتة، هناك التاريخ الذائع للهجرات اليمنيّة، بداية من تفرق قبائل «اليمن السعيد» بعد انهيار سد مأرب الأسطوري، ومروراً بتغريبة «بني هلال» المهاجرين إلى تونس تحت قيادة البطل الحضرمي أبو زيد الهلالي، وربما ليس انتهاءً بالجاليات اليمنيّة في الجوار الجغرافي لذلك البلد، خصوصاً الخليج العربي. ويجمع بين نوعي الهجرة أن خيطاً خفياً وفائق المتانة، لا ينقطع أبداً بين هجرة اليمني وأرضه التي كأنها تبقى فيه.
تغريبة بين تعز ونيويورك ولوزان
في العام 1988، ابتدأت «تغريبة» الدكتور الأشول بأن تخرّج في «ثانويّة الفاروق» في تعز في سن الخامسة عشرة، ليسافر إلى نيويورك. وسبقه أبوه إلى أميركا ملتحقاً بأبيه المهاجر أصلاً في ثلاثينات القرن العشرين إلى تلك البلاد. نال الأشول البكالوريوس في الكيمياء من «جامعة مدينة نيويورك- كلية بروكلين». وعند مطلع القرن الحالي، حاز شهادة الدكتوراه، من «جامعة تكساس إيه أند أم»/ «معهد سكاريبس للبحوث» Scripps Research Institute. وأثناء تحضير تلك الرسالة، سجّل الأشول رقماً قياسيّاً بأن نشر 16 بحثاً علميّاً عن موضوع الدكتوراه، فيما يتراوح المعدل العام للنشر بين 3 و 5 بحوث!
تمحورت الترسيمة الرئيسيّة لرسالة الأشول في الدكتوراه حول «فيزياء البيولوجيا» Biophysics وعلاقتها بالتركيب العضوي Organic Synthesis. وعلى رغم تمايز المواد العضويّة (بروتينات، دهون، نشويّات...) التي توجد أساساً في الكائنات البيولوجيّة الحيّة، عن المادة الجامدة غير الحيّة، إلا أنّ أشياء كثيرة تربط بينها، خصوصاً من ناحية بنيتها الفيزيائيّة. ومثلاً، تتألّف المواد كلها من ذرّات وجزيئات (هيدروجين، أوكسجين، كربون...)، وهي تراكيب يدرسها علم الفيزياء بدقّة. ومثلاً، تستند معظم المواد العضويّة إلى مادة الكربون التي تنطلق دخاناً عند إحراق الخشب والفحم والبنزين وغيرها، وهي موجودة في ما لا يحصى من المواد الجامدة. ويستفيد العلم كثيراً من دراسة الآليات التي تتحرك بها تلك المكوّنات الفيزيائيّة في الكائنات الحيّة.
ولا يتردّد البروفسور الأشول في الإعراب عن اعتقاده بأن بحوث العلم مهما كانت درجة تقدّمها، يجب أن توضع في خدمة البشر أساساً، بمعنى أن تساهم الاكتشافات والاختراعات والابتكارات في تحسين نوعيّة حياة الكائن الإنساني والمجتمعات البشريّة التي يعيش فيها. ويبرز ذلك التوجّه بوضوح في تركيز بحوث الأشول في ما بعد الدكتوراه على مساحات تتعلّق بالدماغ البشري، خصوصاً مرض «ألزهايمر» Al Zheimer. ويعرف عن «ألزهايمر» أنه يؤدّي إلى تآكل تدريجي في القدرات المعرفيّة والإدراكيّة للإنسان، بداية من الذاكرة التي هي ركن أساسي في العمليات الذهنية عند البشر. وإلى حدّ كبير، يرتبط «ألزهايمر» بتراكم مواد بروتينيّة (اسمها «آمايلويد» Amyloid) في مراكز حسّاسة في الدماغ، ما يؤدي إلى تعطيلها وشل وظائفها المتّصلة بالذاكرة ومجموعة من العمليات الإدراكيّة والمعرفيّة والسلوكيّة.