بين مشهدين يذكرانك بذرى التراجيديا الإغريقية تبدأ رواية الكاتب اليمني محمد الغربي عمران «مسامرة الموتى» وتنتهي. مشهد البداية عام 470 هجريا في سوق الوراقين حيث حانوت الناسخ «جوذر»، أما مشهد نهاية الرواية ففي عام 532 هجريا في قبو مظلم تتناجى فيه أرواح تتأهب للانطلاق من مغاليق توابيتها، معلنة الخروج، لإعادة العدل إلى الأرض التي امتلأت جورا. وينصت إليهن «جوذر»، فيقررن وضعه في تابوت لكي لا يبوح بأسرارهن، ويطاردنه عبر متاهة الأبواب السبعة، فهل تكتب له النجاة؟.
في بعض الأحيان، تحمل المعرفة والمهارة صاحبها إلى المهالك، وكان «جوذر» ضحية تفرّده، إذ أهدى «اليامي» مستشار الملكة «الحرة سيدة» كتابا في الحب، فأعطاه «اليامي» إلى جارية مقرّبة من الملكة لتعرضه عليها، فسحرها جمال الصنعة، وحسن الخط، وروعة الزخارف، وأمرت بإحضار «جوذر» من صنعاء ليصير ناسخا ومنمّقا لرسائلها، في قصر الجواري الأقرب إلى متاهة في مبناه ومعناه؛ فالداخل يفقد اسمه، وهكذا صار «صعفان» اسما للناسخ الذي يجبر على عمله الجديد، ويطالب بنسف ماضيه وطمس ملامح عالمه القديم. كان جلب «جوذر» أقرب إلى عملية قنص بمشاركة العشرات من العساكر والخدم، وناءت البغال والحمير بأثقالها من كتب محمولة من سوق الوراقين إلى قلعة دخلها «جوذر» في وثاقه وسط حراسة مشددة، ثم أودع في دار النسخ، لا يؤنس وحدته إلا طيف الجارية «شوذب».
في «مسامرة الموتى»، التي أصدرتها سلسلة «روايات الهلال» في القاهرة، يشيّد الغربي عمران على مهل بناء صرحيا محكما، في سرد متصاعد، يتوسل بلغة تتراوح بين جزالة وعمق وبساطة ماكرة تناسب وعي شخصياته، عبر مشاهد يلهث القارئ للوصول إلى ما بعدها، في قلعة لا تدري هل هي قصر أم متاهة؟
مقر للحكم أم دير يحجب من يدخله ويعطيه اسما كهنوتيا؟ فبعد موت الملكة «أسماء بنت شهاب»، صعدت «الحرة سيدة» على خلفية اكتسابها ثقة الملكة الراحلة التي توسّمت فيها النبوغ، ومنحتها لقب «الحرة»، وزودتها بكتاب الوصايا السرية، كدستور للحكم. وكانت الملكة أسماء وزوجها الملك علي محمد الصليحي يستعدان لإعلان دعوتهما الإسماعيلية من جبال حراز. لم يكن «جوذر» أول الذين فقدوا أسماءهم القديمة، ففي لحظة كاد فيها يفقد حياته عرف أن «شوذب» التي خايلته في السوق يوما، وسعى لتقصي أخبارها، لم تكن إلا واحدة وهبت نفسها إلى «الدعوة الإسماعيلية»، ولا يعنيها أن يكون اسمها شوذب، فارعة، شوشانا، فندة، بيلسان، وسينتهي بها الأمر وقد صار اسمها «أروى» مسبوقا بلقب الملكة.
يتسم أغلب شخوص رواية «مسامرة الموتى» بالقدرية، يتجهون صوب مصائر لم يختاروها، ولا يملكون لها دفعا، ولا تجدي معها المقاومة. كانت سيدة وشوذب الأقرب إلى قلب الملكة أسماء، ثم أصبحت «الحرة سيدة» هي الملكة، وحولت زميلتها السابقة إلى جارية، «وذلك أسعدني طالما أنني في خدمة الدعوة.. لتعلّمني كتب المعلم المزيد من التماهي مع إرادتها. وكيف أتلذذ بعبوديتي لها»، كما تعترف «الملكة الحرة أروى» في نهاية الرواية بغير أسى، انطلاقا من إيمانها برسالة تخلص لها.
يتسم أغلب شخوص رواية «مسامرة الموتى» بالقدرية، يتجهون صوب مصائر لم يختاروها، ولا يملكون لها دفعا، ولا تجدي معها المقاومة. كانت سيدة وشوذب الأقرب إلى قلب الملكة أسماء، ثم أصبحت «الحرة سيدة» هي الملكة، وحولت زميلتها السابقة إلى جارية، «وذلك أسعدني طالما أنني في خدمة الدعوة.. لتعلّمني كتب المعلم المزيد من التماهي مع إرادتها. وكيف أتلذذ بعبوديتي لها» كما تعترف «الملكة الحرة أروى» في نهاية الرواية.
لا يستسلم الكاتب لإغراء عالم الحريم الذي يغوي الكثيرين باستعراض مشاهد العشق، وتدبير المؤامرات، ومطاردة الجواري. هنا كاتب له قضية، مشغول بطرح أسئلة وجودية في مشاهد يطغى فيها دفء الدراما على جفاف الأفكار. كانت أم «جوذر» يهودية، وهذا لا يعني له شيئا، وذات مرة حضر الصلاة في كنيس من أجل لقاء شوذب، وهي ابنة مسلم قتل في معركة بين العباسيين والفاطميين، وهربت أمها مع تاجر يهودي، ثم راق لها أن تكون يهودية في حي اليهود بصنعاء، وإن ظل الوشم على ذقن الفتاة دليلا على أنها غير يهودية، وبعد الصلاة صارحها «لا أصدق بأنك تؤمنين بتلك الحكايات والأساطير! فلتكوني مسلمة أو يهودية؟ ألم تباغتك أسئلة دون أن تجدي لها أجوبة؟ ألم تتساءلي عمّن يعبدون؟ وأين هو؟ ولم هم يقولون بأنه دين يخصهم دون الأغيار؟». سألته عمن يعبد، فأجاب «لا أظنني أعبد أحدا!»، واستعرض ما يراه وهما يمارسه أتباع الديانات، «فيما الله الحق يقبع في أعماقنا ولا يحتاج لأيّ طقوس ولا إلى أنبياء. ولا لأيّ تعريف. ولا لمن يمثله أو يدّعي فهمه دون غيره. فقط أن نتجنب أذية أنفسنا كبشر وأذية من حولنا».
نساء الرواية يتّسمن بالصلابة والنديّة. حفظت الملكة أروى وصية الملكة أسماء بتجنب الرجال، وإن لم تستطع فعليها أن تتعايش معهم «كمرض ابتليت به»، وسيقرأ جوذر من الوصايا «الرجال شرّ وعلينا قتلهم في أنفسنا، وألا نترك لهم مجالا لإذلالنا إن أردنا أن نمتلك أنفسنا، لا يمكن أنْ نمتلك كرامتنا إن قبلنا أن يكون لنا أزواج يروننا مجرد إماء، أن نمنحهم حق استعباد أنفسنا، ندور في فلك رغباتهم، ولا همّ لهم إلا غرائزهم». وقد شعرت الملكة أروى ذات يوم بالضعف تجاه رجل، وكانت قد كلّفت رسولا بحمل رسالة سرية إلى الآمر بأحكام الله في القاهرة، عن أخطار تواجه الدعوة المستعلية، وتوسّلت انتداب مستشار لمساعدتها على مواجهة الخولانيين الذين يستعدّون للانقضاض، بعد أن فرضوا جبايات على قوافل التجارة العابرة. وعاد رسول الملكة ومعه المستشار «ابن نجيب الدولة» الذي سحرها من وراء حجاب بصوته وقوة حجّته، فانشغلت بتخيل هيئته، وأمرت بتجهيز مكان يتيح لها رؤيته حين قدومه. «ولا أنكر بأن عيني أنست له. وقد رأيته ذا طلعة بهية. لكنها الوصايا تأتي زاجرة. لأعود إلى ما عليّ أن أكون».
مقر للحكم أم دير يحجب من يدخله
وحين تزايد عسكر ابن نجيب الدولة، وصار الأمراء يسعون للقائه، أضحى خطرا، فقررت أن ترهقه بخوض حروب متواصلة، ثم نقلت مقر إقامته بعيدا، وبدأت شكوك ومخاطر جديدة، لأنه يمارس أدوارا كأمير مستقل، من دون الرجوع إليها، بحجّة أنه تابع لأمير المؤمنين في القاهرة، «فأوعزت من يبعث إلى مقام مولانا أمير المؤمنين في القاهرة بأن ابن نجيب الدولة يدعو للنزارية. وأنه يحارب المستعلية. وفي الوقت نفسه دبّرت حيلة لاعتقاله. ثم طلبت من أمير المؤمنين أن يرسل من يقتاده إليه. وهكذا غادرنا وقد قيّد بقيود من فضة. كان منظرا داميا لقلبي وقد حمله العبيد داخل قفص من عيدان النخيل».
كان «جوذر» يبحث عن طريق للنجاة، وقد ثقلت عليه الأعوام، وماتت ملكة وصعدت أخرى، وفي الظلام رفع صوته معلنا الرغبة في الخروج من المتاهة، وأتاه الردّ ممن تعرف باسم «صعفان»، كانت تلك هي روح الملكة أروى، «شوذب» كما يحلو له أن يناديها. وسمع صوتا آخر يأمر صاحبات التوابيت «لن نعود إلى توابيتنا. ولن ننتظر. سنخرج ندعو الناس لنملأ الأرض عدلا بعد أن امتلأت بؤسا وجورا. لن يكون بعد ذلك اليوم لسلطان الرجل بقاء. لكن قبل أن تتحركن هيّئن لصعفان تابوتا ولا تدعنه يخرج من هنا حتى لا يبوح بسرنا»، فيصفع بالمصباح صاحبة الصوت، ويتجه إلى أروى، ويسقط المصباح على صندوق الكتب، وتشتعل النار، ويلهث ملتمسا بداية سلم حلزوني، وتلاحقه التحذيرات وأدخنة النار والصراخ، وينجو من متاهات الأبواب السبعة، وأخيرا يرى الشمس تتدفق من نوافذ القصر، ويلقي بنفسه من نافذة إلى نهر صغير.
«مسامرة الموتى» مغامرة فنية في قلب تاريخ لا يكفّ عن النبض، رواية لا تعيد الماضي، ولكنها تستعيد الذاكرة، بوعي وتمكّن من روائي بارز.