[ عدم تشكيل تيار ثورة فبراير حتى الآن يعد من المعوقات التي تواجه الثورة ]
ليس من السهل فهم كنه الثورات، كما أنه ليس من السهل التنبؤ بها على عكس الانقلابات، فالثورات أكثر عفوية وتلقى رضى الجماهير التي تندفع بقوة إلى الشارع لتحقيق مطالب الثورة، إلا أن الانقلابات عملية مرتبة يتبادل فيها أركان الانقلاب الأدوار فيما بينهم؛ واحد يمهد والأخر يستعد، بينما الثالث يكون قد أكمل عملية نخر النظام من الداخل، ومع ذلك تظل الانقلابات محدودة التأثير على مكونات المجتمع ومكونات السياسة، بينما الثورات واسعة التأثير وتجرف في طريقها الكثير من المسلمات السياسية والاجتماعية والعادات المتوارثة على أساس أنها من الدين.
اليمن المعقد جغرافيا والمتنوع ديمغرافيا والأبعد تاريخا على مستوى الشرق القديم برمته، يقدم ثورات قد تكون متشابهة مع ثورات المنطقة في التسمية وربما قد تتشابه في الأسباب، لكنها تظل نموذجا فريدا في كل ثورة قامت في ربوعه منذ 1948، وفي هذا العام بالتحديد انطلقت أول ثورة نخبوية في البلد، تنشد التغيير الجزئي بتغيير الملك –الإمام- بآخر من نفس السلالة، وهذا هو التغيير المتاح بحسب النخبة التي تشكلت في العشرينات من القرن الماضي كنتيجة حتمية بعد رحل العثمانيين من اليمن وترك البلد في أيدي الاستعمار جنوبا والرجعية شمالا، وقد كان للبعثات الدراسية في الخارج الدور الأبرز في تشكيل نواة الثورة الأقرب إلى توصيف "الثورة النخبوية"، لم تكن قد تشكلت بعد قوى سياسية لتساعدنا في فهم ما إذا كانت هناك طبقة سياسية واعية تريد هذا التغيير الجزئي فقط والمتمثل في إنهاء حكم بيت المتوكل والدخول في حكم بيت الوزير.
قبل رحيل الوالي العثماني المقيم في تهامة في 1918 ذهب وجهاء المجتمع إليه يترجونه في البقاء، وينظرون فيما ستؤول إليه الأمور، فتم تطمينهم، وذهب نفس الوفد إلى صنعاء حيث يقيم الوارث الجديد لليمن، رحب بهم يحيى حميد المتوكل الملقب بالإمام وبعد إرسال عامله إلى تعز اعتقل نفس الوفد وأرسلهم إلى صنعاء حيث سجنوا وماتوا فيها، ونتيجة لهذا الظلم تشكلت بذرة الثورة من البعثات الدراسية اليمنية المحدودة في مصر و العراق، وفيما بعد سوريا بالإضافة إلى معهد البيحاني الذي تأسس في عدن عام 1929 حيث ساهم في إخراج نخبة يمنية تحولت في عام 1948 إلى قيادة للثورة، الأستاذ النعمان والشيخ البيحاني والقاضي الزبيري في مصر شكلوا اللبنة الأولى لهذه الثورة، واصدروا (صحيفة اليمن الخضراء) وتبعهم في العمل الثوري كلٌّ من السلال ومحيي الدين العنسي وحمود الجائفي من البعثة الطلابية اليمنية في العراق، وبمباركة وتخطيط من مرشد الإخوان المسلمين في مصر الإمام حسن البنا أرسل الفضيل الورتلاني إلى اليمن ليقوم بالترتيب للثورة.
هذه النخبة متنوعة الفكر متحدة الهدف لم تستطع سوى إرسال القردعي الذي قتل يحيى حميد المتوكل في صنعاء، وفضحت وثائقها ومخططها،ولذلك فشلت، وبالإضافة لذلك فقد ساهم في فشلهل طابعها النخبوي لعدم وجود مجتمع مؤمن بها أو يعرف عنها شيئا، وكانت عبارة عن (ثوريين) بلا ثورة، لكنها بدأت والبدايات هي من تشكل علامات فارقة في التحولات التاريخية، صحيح أنها كانت ثورة نخبة متعلمة في ظل ظلمات الجهل المتراكمة بعضها فوق بعض، إلا أنها مثلت النور الذي انتشر فيما بعد مبددا الظلام والظلم معا.
وكنتيجة لعدم خروج فكر الثورة للعلن ظلت الثورة نخبوية، لكنها مهدت الطريق إلى وصول فكرة الثورة إلى الشعب، وسميت هذه الثورة بالثورة الدستورية، والدستور هنا هو المناقض للشريعة بحسب الزيدية الهادوية التي تؤمن بأفضلية النسب للوصول إلى الحكم، ولم تكن الزيدية مذهبا دينيا بل مذهبا سياسيا سلاليا فاطميا، فالحكم لولدي فاطمة فقط دون بقية بني آدم.
هذه الثورة اقتربت بعد فشلها من المجتمع وعرف رموزها فتبعهم خلق كثير، وتعتبر ثورة 1948 الممهد الأول لثورة سبتمبر والتي اجتمع لها الفكر وتنظيم الضباط الأحرار وصار لها جذورا اجتماعية، فكانت ثورة 26 سبتمبر 1962 نتاجا طبيعيا وامتدادا لثورة 1948.
استبشر الناس خيرا بصعود ابن الفلاح عبدالله السلال إلى سدة الحكم وتولي الثوريين مقاليد السلطة الجديدة في 1962، وككل الثورات دب فيها الخلاف، وصار الجيش المصري هو القائم فعليا بأمر الحكم والآمر الناهي، واعتقل السلال في أحد فنادق القاهرة لأشهر، ثم اعتقلت الحكومة بقيادة النعمان في السجن الحربي، وهو ما جعل الزبيري يدعو الشعب للخروج في شوارع صنعاء معترضا على القمع الذي تسبب به الجيش المصري، لم يفهم ضباط مصر طبيعة الشعب اليمني، ولم يحسنوا إدارة البلد بمعزل عن أبنائه، إلا أنهم أسسوا نظام الإدارة البيروقراطية في الدولة الجديدة. أما الجماهير التي هتفت باسم جمال عبد الناصر فقد احتارت في التعامل مع ضباطه. وفي زنزانة بالسجن الحربي في القاهرة طالب رئيس الوزراء الأستاذ النعمان بحرية "البول" وهو المطالب من الإمامة قبل ذلك بحرية "القول".
الخلافات في صفوف الثورة وتدخلات مصر من جهة والملكيين وخلفهم كل ملكيات الدنيا من جهة أخرى اجهضت تحقيق أهداف الثورة، وصار السلال مجرد (رئيس لا يحكم)، وتم الانقلاب عليه وهو في زيارة رسمية لبغداد، وتصدرت القبيلة المشهد فجاءت بالقاضي الإرياني كشكل جديد بلا مضمون ثوري وبلا سند قبلي اجتماعي ليكون واجهة لليمن بعد سبع سنوات من الثورة، وقد شكلت مرحلة الرئيسين الإرياني والسلال المرحلة الأولى من مراحل الثورة، وظلت الدولة تسير من ضعف لضعف، واستعان الإرياني بالجبهة الوطنية ليتخلص من القبيلة فتخلصت منه القبيلة وجاء بعده حكم العسكر بدعم من القبيلة ذاتها.
وفي المرحلة التي تلت ركز حكم الرئيس الحمدي على الاقتصاد والتعاونيات وأرسى الأمن وحضي بحب الشعب، إلى أن أنهى حكمه رفاقه العسكر، واغتيل الغشمي في الشمال بحقيبة مرسلة من سلطة الجنوب، وصعد علي صالح إلى السلطة بدعم من الأمير سلطان بن عبد العزيز ال سعود والذي كان متعهدا بملف اليمن، وبمساعدة من قراصنة العالم الأخر حين تعرف عليهم أثناء قيادته لواء تعز عبر باب المندب. وفي المرحلة اللاحقة التي بدأت من 1978 انتهى عهد الثورات وجاء صالح مدعي الثورة والجمهورية وشكل نظام حكمه من تشكلات المحسوبية والفساد وهي عبارة عن خليط قبلي وعسكري وتجاري وعصبوي.
وفي الجزء الأخر من اليمن لم تكن الأوضاع تسر أحد بعد ثورة 14 أكتوبر، بدأت بريطانيا بالاستعدادات لتسليم السلطة، فوطدت علاقتها بالجبهة القومية مبعدة جبهة التحرير تدريجيا من الواجهة، كانت الثورة ضد الإنجليز في عدن ثورة مسلحة، وتكونت تشكلات الثوار المحاربين في تعز وبدعم مصري وعربي من الجمهوريات الثورية الجديدة التي تشكلت في العالم العربي بعد رحيل الاستعمار. وتعد ثورة 14 أكتوبر أقرب للثورات الاجتماعية السياسية، لكن المستعمر صاحب نظرية فرق تسد نجح في زرع الاسفين بين فصيلي الثورة ، وفي نوفمبر 1967 سلمت جنوب اليمن للجبهة القومية، وكان أول عمل ثوري عكسي لها هو تصفية جبهة التحرير، وعاد الثوار المنطلقون من تعز -عاصمة الثورات اليمنية منذ الأربعينيات حتى اليوم- إليها هاربين من رفاق الثورة، تحولت طلائع الثورة فيما بعد إلى نخب ميليشياوية تصفي بعضها بعضا من 30 نوفمبر 1967 إلى 13 يناير 1986 .
في عام 1990 كانت الأجواء مهيأة لثورة نهضوية يمنية جامعة بدون حروب بل بتكاتف الجهود بعد إعلان الوحدة السياسية في بلد موحد رغما عن الظروف، لكن الشراكة السلطوية بدت انتهازية أوصلت البلد إلى حرب أهلية، الزعيم الحضرمي اليساري علي سالم البيض الذي بدأ مضحيا عام 1990 بمنصبه أعلن الانفصال في 1994، وعلي صالح الذي تبنى فكرة النظام الأبوي للدولة سارع إلى الحرب.
أسباب الثورة:
*بالإضافة إلى كلما سبق من الأسباب شكل انهيار الاقتصاد اليمني بالتدريج سببا مقنعا للجماهير للخروج في الثورة، كما أن الفساد المالي والإداري كانا في أوجهما طيلة الثلاثة عقود التي حكم فيها علي صالح، وبدأ نظام الجرعات الفاشلة، وفصل قطاعات كبيرة من الجيش وتم التلاعب بوظائف المعلمين والمحاباة في التعيينات والمناصب وتولي المشايخ سرقة التوكيلات التجارية برعاية السلطة وارغم التجار على التنازل عن تلك التوكيلات بحكم القوى القبلية والعسكرية التي فرضت على الشركات الإتاوات تحت مسمى الحماية، كل ذلك هيأ الأسباب الاقتصادية للثورة القادمة.
*بغرور كبير تعالى صالح ونظامه على كل المكونات السياسية والاجتماعية والثقافية في البلد وارتد عن الثوابت الوطنية والجمهورية مخالفا كل الثورات اليمنية في 48 و 62 و 63 من القرن الماضي ووصلت به الجرأة إلى تصفير العداد والبدء فعليا في التوريث، تململ العسكر وتداعت قيادات الجيش للتفكير في الحل منذ وقت مبكر من بعد حرب 1994 وكان هناك حراك عسكري داخل الجيش، ومتوقع من قبل النظام، لأسباب قد تعود إلى تصفية قيادات عسكرية أثناء وبعد حرب الانفصال من قبل النظام. كما شكلت انتخابات الرئاسة في 2006 تحولا عظيما في كسر الصنمية، وتبين أن النظام هش وأن الشعب ضاق بصالح ذرعا فانكسر وهو يرى، وكل من دفعهم إلى صناديق الانتخابات صوتوا ضده، كانت نتائج الانتخابات مرعبة له ولأركان نظامه، سارع بتوجيه الجيش لضرب فيصل بن شملان إذا أراد دخول دار الرئاسة كخطوة استباقية، وأمر بتزوير نتائج الانتخابات، وكان مرشحو الحزب الحاكم في الانتخابات المحلية والنيابية تخلوا عن صالح حتى يفوزوا هم في انتخاباتهم المحلية والنيابية المتزامنة مع الانتخابات الرئاسية، كانوا هم أول من باع صالح، كما أن عدم القدرة على إصلاح النظام الانتخابي بحسب القائمة النسبية فيما بعد فاقم الأزمة بين صالح والأحزاب السياسية، توافرت الإرادة السياسية في التغيير في صفوف كل الأحزاب بما فيها المؤتمر الشعبي العام الذي يقوده صالح. وشكل انسداد الأفق السياسي مع كل ما سبق من الأسباب أسبابا حقيقية للثورة.
*تململت قطاعات المثقفين من الكتاب والسياسيين والصحفيين والقانونيين وبدأ الفن الساخر بنقد السلطة الهشة التي استخدمت "الفيديوهات السوداء" لإذلال منتسبيها وضمان تبعيتهم، فكانت السخرية عبر النكات المتبادلة عن المخصيين الذين وصولوا للوزارات والمناصب السيادية.
كما أن محظيات السلطة ألهمن الكتاب الأفكار للكتابة النقدية بشكل واضح أحيانا وخفي مموه أحيانا أخرى، فكانت محظية تغيير وزراء ومحظية تعيين وكلاء. كما أن الفكر الثوري اليمني بدأ يتسرب للصحف ووسائل الإعلام في المناسبات الوطنية، سبتمبر وأكتوبر و22 مايو، وكلها شكلت توجها إحيائيا جديدا للثورة، وهذه المرة ليس عبر صحف المعارضة، ولكن عبر صحف السلطة المتغنية بالشرعية والثورية والوطنية، أيضا صحف المعارضة شكلت الوعي الثوري وهيأت الجمهور للثورة، عاد الناس لمؤلفات الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر ولقراءة قصائد الزبيري والبردوني، واختلطت الأفكار وتشكل وعي ثوري يمني فيه اليسار واليمين، والقومي والوطني، ونشأت طبقة جديدة في المجتمع متجاوبة الدعوات ومتقاربة في الفكر اليمني شبه الموحد، هذه الطبقة شكلت نواة الثورة المنتظرة ثقافة وفكرا، وتقدمت الصفوف في 2011 وشكلت خلايا الثوريين الجدد و"مجاذيب" الثورة. كما شكلت أشعار الفضول الغنائية وأغاني أيوب طارش الوطنية محفزات للثورة بين صفوف الجماهير، وبعثت أغاني علي بن علي الآنسي الثورة من جديد في قطاعات شباب الثورة، ووقف التاريخ ليحيي جموع الثوار في 11 فبراير.
*أضف إلى كل ما سبق من أسباب واتجاهات سياسية واقتصادية وثقافية فكرية للثورة كان العمال في اليمن يشكلون الطبقة المسحوقة، وتوسع الإقطاع بشكل كبير ومثله خليط من الفاسدين ساسة وتجار وعسكر شكلوا شبكة واسعة من الفساد أوصلتهم إلى الثراء على حساب المجتمع والجماهير الجائعة، كما أن جرع الإصلاح الاقتصادي ضغطت بقوة على الطبقة الوسطى في المجتمع، وحورب الموظفون في وظائفهم ذات الطابع الحكومي العام، وبإيعاز من السلطة منعت الإصلاحات من الوصول إلى القطاع الخاص، اهتزت أركان المجتمع المكون لطبقة موظفي الدولة والقطاع الخاص والعمال، كما أن التسلط الجهوي للقبيلة قد أضعف الدولة والمجتمع وعاد الثأر طاغيا، وتعطلت بفعل الفساد السلطات القضائية، وتفاقمت معاناة المجتمع، وشعرت قطاعات واسعة من المجتمع بالتهميش، وما إن اندلعت الثورة حتى خرج العمال والموظفون إلى الشوارع يسترشدون بخطى طلاب الجامعات الذين كانوا "شارة البدء" في الثورة.
بالمجمل نستطيع القول إن لثورة 11 فبراير 2011 أسبابها السياسية والاقتصادية والثقافية الفكرية والاجتماعية ولم تأت من الفراغ ولا من العدم ولم تكن محض صدفة، كما أنها ليست محاكاة لما جرى في مصر وتونس فلكل بلد ظروفه ولكل ثورة أسبابها. وهي مزيج من الثورة الاجتماعية والسياسية، تختلف عن ثورة 1984 بأنها تشكلت من قطاع شعبي واسع مساند للثورة ومن ثوريين ملهمين تبنوا قضايا الأمة اليمنية ومطالب الجماهير. وتعد ثورة 11 فبراير ثورة شاملة وليست نخبوية ولا اتفاق بين ثوريين وعسكريين كما حصل في ثورة 26 سبتمبر، فقد كانت الجماهيرية التي اتصفت بها الثورة تعبر عن توجه كبير للثورة التي شملت معظم محافظات البلاد، وفتحت الساحات الثورية، وشاركت فيها إلى جانب سقطرى 17 محافظة يمنية، قامت على السلمية كفكر ثوري، واجتمع فيها المدني والعسكري والقبلي بدون سلاح، مع أنها تمتلك جيشا من المنظمين إليها من قطاعات وألوية الجيش، وانضم لها معظم سياسي البلد وموظفي الدولة والدبلوماسيين في الخارج، اهتزت اليمن في 2011 بسبب هذا التحول الجذري الذي صنعته الثورة.
يقول جوستاف لوبون: "يتعذر على الأمة أن تختار نُظمَها قبل أن تغير روحها" وثورة 11 فبراير غيرت روح الأمة اليمنية، وتساقطت المسلمات تباعا: دينية واجتماعية، ووصلت الأمة إلى مرحلة من النضج الذي رفضت فيها الفتاوى الدينية المجيرة لصالح النظام المتسلط، ولم يستطع الكهنوت الديني الصمود ولا التربح ببيع الفتاوى كما دأب في الفترات السابقة قبل الثورة، توقف طلب الثأر وفي الساحات اجتمع الناس ولم تحدث أيا من مشكلات الماضي القريب ووقف الغرماء القدماء صفا واحدا أمام غريم الشعب الجديد، كما اختلطت الرؤى الثورية وحمل الناس شعارات الثورة وهتفوا بها جميعا، وخرجت المسيرات تجوب شوارع اليمن، كما ساهمت البعثات الطلابية اليمنية في الخارج في تأجيج الثورة، وكونت تشكيلات ثورية تتناغم مع الساحات اليمنية، وبقدر ما انتشر الوعي انتشر الحب بين الناس، وعبرت وسائل التواصل الاجتماعي عن ذلك بوضوح في بداية انطلاقة الثورة.
روح الأمة اليمنية العظيمة حضرت في كل أرجاء اليمن، وأراد اليمنيون الانعتاق من صراعات الماضي فتركوا الأيدولوجيات نائمة في رفوف المكتبات المنزلية وخرجوا للشارع بحثا عن وطن وعن دولة، واستفاقوا يوم الثورة على نداءات الأمة اليمنية، وعند اشتداد الأزمات كانت الأمة حاضرة وبعد انقلاب 2014 كانت الهوية والأمة هما الحاضرتان، واستمر نوم الأيدولوجيات، لكن هذا النوم لم يستمر وكلما حضرت الأيدولوجيات المتصارعة دبت الخلافات بين مكونات الثورة على الدوام، لكن الثورة هيأت الجميع للتنازل للجميع من أجل الجميع في خلطة يمنية مميزة ذاق الناس حلاوتها ابان اندلاع الثورة.
كانت خلافات الأحزاب هي من جعلت شباب الثورة يفكرون بطريقة عملية لتكوين تيار جديد يسير بمقاصد الثورة حتى تحقيق أهدافها، لكن للأسف كان التفكير محدودا واستطاعت الأحزاب أن تحجم هذا التوجه الذي يعبر عن صراع الأجيال الذي يضاف إلى واقع هذه المرحلة من عمر الثورة، فكانت فكرة الطريق الثالث وجها آخر للقاء المشترك بصيغة أو بأخرى، ولم يتخفف الناس بعد من الأيدلوجيا التي مازالت حاضرة، وهذا الحضور المؤدلج كان من أبرز معوقات الثورة التي لم تنتج تيارا جديا يعبر عنها تاركة المجال لتيارات ماضوية غارقة في العدمية والصراعات القديمة، تجلت تلك الصراعات العدمية في تشجيع فريق من المشترك للطائفية، وتحولهم إلى سيف مسلط على رقبة السلطة والحكومة الانتقالية، الأحزاب الإمامية في المشترك عادت لتحن لجذروها الهاشمية، ومثل الحوثي لها فرصة للتخلص من الموروث الذي حاصر مذهبها في 15% من نسبة السكان، وفشلت في كل الانتخابات الماضية منذ عام 1993 في إحراز أي تقدم جماهيري، فمازالت ثورة 26 سبتمبر حاضرة في الوعي الشعبي لا إمامية ولا طائفية ولا مذهب ديني سيخدع الناس للوصول إلى الحكم ليغير النظرية الديمقراطية ويستبدلها بنظريته الباطنية المتمثلة في الحق الإلهي للفاطمية المتدثرة بالزيدية في اليمن.
ولذا كان انقلاب الهاشمية السياسية واضح المعالم بينما طلاب السلطة الجدد في المرحلة الانتقالية لم يستطيعوا ترويض هذا المشروع الذي أرادوا به كسر المكونات المجتمعية والسياسية الأخرى، وتبرع بعض الحداثيين العميان بتسمية القادمين من الكهوف في مران وحيدان (بالقوى الصاعدة)، وبالفعل كانوا قوة صاعدة من عمق الباطنية الفاطمية متدثرة بالزيدية تارة وبالجهوية تارة، استطاعت أن تبتلع السلطة والمعارضة، وذهبت قيادات البلد سرا نحوها تقدم الولاء، الرئيس هادي والمخلوع صالح في يوم ما تسابقا على عتبة الهاشمية السياسية في عمران، الأول قال (عادت عمران إلى حضن الدولة) والثاني وصف أهم قائد عسكري في عمران (بالكلب الأعرج)، ومثل مقتل القشيبي قائد اللواء 310 منعطفا جديدا في تاريخ الثورة الفتية، وتوقف التاريخ وكأنه عاد للوراء، فجموع القادمين إلى عمران وبعدها صنعاء كانوا يمثلون يتامى الإمامة ومريدي الهاشمية السياسية ومتخلفي القبيلة.
معوقات الثورة
من معوقات ثورة 11 فبراير أيضا انطلاق موجة الثورات المضادة والتي خطط لها في الخليج الذي لم يتعامل مع اليمن وفقا لقواعد فهم المجتمع وفئاته، بل تعامل بنوع من التعالي على الواقع، وتم دعم عصابات الهاشمية السياسية بالمليارات لتقتحم صنعاء، فكان الانقلاب في 21 سبتمبر 2014 من أهم معوقات الثورة، وتعطل مشروع الدستور الناتج عن مخرجات الحوار الذي رعته الأمم المتحدة بالضبط كما رعت الانقلاب وشرعنت وصوله إلى صنعاء.
في نظري يبقى معوق عدم تشكل تيار فبراير أهم من معوق الانقلاب، لو تشكل هذا التيار كان سيمثل عائقا وسياجا مانعا أمام الانقلاب وأمام تسارع القوى المتخلفة لمد يدها للهاشمية السياسية التي مزقت اليمن ومزقت النسيج الاجتماعي وحاولت مرارا وتكراراً طمس الهوية اليمنية، وإن كان قد تعذر عدم تشكل تيار الثورة قبل الانقلاب وقبل تدخل التحالف فالأصل اليوم خروج هذا التيار للعلن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من اليمن.
يمكننا القول إن عدم فهم النخبة الجديدة لمعنى تيار جعلها تحجم حتى عن الخوض في الحديث عنه، النفسية النخبوية اليمنية فيها من العيوب الكثير وأهم عيوبها عدم القدرة على العمل في اطار المجموع، ولحل هذه المشكلة نتحتاج إلى الاسترشاد بالتجربة اليابانية التي نجحت في هذا المجال، التجربة اليابانية تذيب الواحد في المجموع وتمنح الذات عناصر النجاح من المجموع وتحول طاقات الكل إلى طاقة واحدة قوية وهادرة ومنظمة. من سيقود هذا التيار يتطلع الجميع صوب هذا القائد، ويحجمون عن إنتاج فكر يجمع الناس ابتداء على الفكرة، كما أن أكبر العوائق دوما ما كانت من الذات، بالإضافة إلى وجود متسلقين لا يملكون فكرا ولا رؤى، ويملكون أحلاما غير مرئية ولا مدركة ولا مكتوبة ولا منطوقة وغير قادرة أن تخرج للعلن، وهؤلاء يحتاجون إلى فهم المعادلة الثورية برمتها وخوض غمار الجندية وحمل الفكرة العامة والسماع أكثر من الحديث، إذا لم نعالج مشكلتنا في هذه الجزئية ستكون الثورة والدولة والشهداء والوطن والأمة والهوية في مهب الريح، وإذا لم نتخلص من بقايا الحقد المؤدلج وفهم المعنى العام للفدرالية التي لا تعني بأي حال من الأحوال المناطقية ولا الجهوية ستعود النخبة للممارسة التخلف من باب التثقف وهي لا تدري ماذا جنت بحق الأمة.
شخصيا أنا لا أميل إلى تفخيم وتعظيم المعوقات الخارجية مع كثرتها، لكنها بلا مشروع وبلا رؤية وينقصها الشجاعة والقيادات غير متوفرة، أنا في حقيقة الأمر اشك في قدرة لاعبي البلاستيشن من تحقيق أي تقدم إو إعاقة أي مشروع يمني خالص، فالشباب في اليمن يلعبون على أرض الواقع ولا يلعبون في خيالات المزرعة السعيدة، ومن يستطيعون اللعب على أرض الواقع متحملين كل أنواع القهر والظلم وأشد أنواع البطش لا يمكن أن يهزموا من قلة مال أو عدد إذا امتلكوا الفكرة واستيقظت فيهم روح الأمة وسرت في أرواحهم الهوية واستشعروا وجوب قيام الدولة.
الأمة التي تمتلك كل هذه الكوادر البشرية المؤهلة للبناء والتنمية والنهوض لديها فرصا كبيرة للنجاح، فالإنسان هو الثروة والرهان على غيره مضيعة للوقت، انظروا من حولكم ماذا صنعت الثروة بدون الإنسان، لا شيء سوى العبث.
وجود تيار 11 فبراير صار ضرورة حتمية، ووجود فلسفة حقيقة للتيار ضرورة أكبر وأعظم، والإيمان بهذه الفلسفة هو سبيل نجاة الأمة اليمنية من الغرق في منطقة الطوفان التي تعد اليمن جزءاً منها، كما أن عدم التعالي على الفكرة هو من يسرع بظهورها، وعدم القفز فوق الحدث المزمع هو المؤشر الحقيقي للحاجة لهذا التيار. القوى السياسية اليوم مرهونة بالمساعدات، ومرهونة بالتحالفات الوهمية، ومرهونة بماضيها وبتاريخ الصراع، وهي عبارة عن أيدي مرتعشة ومن يعول عليها فليراجع نفسه.
القوة الأساسية للبلد تتمثل في الشعب وفي مقدمة هذا الشعب الشباب والشابات، من يحملون البندقية اليوم للدفاع عن اليمن والثورة والأمة ومن يحملون القلم للدفاع عن الجنود وعن الشعب والأمة والهوية والدولة فقط هم القادرون على إخراج اليمن من محنتها، عليهم فقط أن ينخرطوا في تيار واحد، وهذا هو ما نراه رأي العين، كما نرى جميعا عذابات شعبنا وضياع أمتنا اليمنية ومحاولات طمس هويتنا والتشكيك بثقافتنا وحجبها عن الأجيال. وبهذه القوة المتوفرة اليوم ميدانيا ونظريا يمكننا أن نبقي الثورة مستمرة حتى استعادة وبناء الدولة اليمنية.