لم يعد الحديث عن عجز وفشل السلطة اليمنية الشرعية مجرد تكهنات، فالسلطة التي فشلت في تأمين مقر لها في العاصمة المؤقتة عدن، وعجزت عن تسليم رواتب الموظفين بانتظام في المحافظات المحررة، لا يمكن التعويل عليها في القضاء على الانقلاب، والسيطرة الكاملة على البلاد، فضلًا عن قدرتها على تحقيق تطلعات اليمنيين في بناء دولة اتحادية ديمقراطية آمنة ومستقرة، وتنفيذ كل مخرجات الحوار الوطني الشامل.
وبدلًا من أن تقوم هذه السلطة بترميم ذاتها ومراجعة أدائها وتلافي أخطائها، نظرًا لحساسية المرحلة التي تمُر بها البلاد، لكن عجزها وفشلها يزداد يومًا بعد آخر، وتتراكم السلبيات والأخطاء وفضائح الفساد بوقاحة، وكأن اليمن لا تشهد أخطر مرحلة تحول في تاريخها الحديث والمعاصر، وهي المرحلة التي حولها كثير من المسؤولين في السلطة الشرعية إلى فرصة تاريخية بالنسبة لهم لجني المصالح والمكاسب الخاصة بهم وبعائلاتهم، إذ لا فرق بينهم وبين قيادات مليشيات الحوثيين الانقلابية.
وفيما يلي أهم أسباب إخفاق وعجز السلطة الشرعية:
1- سلطة هشة وغير متجانسة:
تكمن هشاشة السلطة الشرعية في أنها تشكلت في ظروف استثنائية لم يكن معيار الكفاءة والنزاهة يمثل المعيار الرئيسي لتشكيلها، وفي ظل هذه الظروف الاستثنائية كان يفترض تشكيل حكومة حرب تتواجد داخل البلاد وتتكون من عدد محدود جدًا من الوزارات يديرها أشخاص من ذوي الكفاءات، تتلخص مهمتها في القيادة الميدانية للحرب على الانقلاب، وتدير المحافظات المحررة من خلال العمل على توفير الخدمات الأساسية والأمن والاستقرار، وتقدم نموذجًا مشرفًا يجعل الشعب يلتف حولها بقوة بما من شأنه التعجيل في القضاء على الانقلاب.
لكن ما حصل أن هذه السلطة تشكلت في البداية كوسيلة لاستيعاب كبار النازحين من البلاد جراء الانقلاب، واستقطاب بعض أتباع ومعاوني الرئيس المخلوع علي صالح بغرض إضعافه، ثم سرعان ما تحولت إلى وسيلة للترضيات وكسب النفوذ والولاءات وتجنب الابتزاز، ثم تحولت إلى ملاذ للباحثين عن مصالح شخصية، وخاصة المعروفين بتبدل ولاءاتهم بحسب الظروف وما تقتضيه المصالح الشخصية.
كما أن السلطة الشرعية تبدو غير متجانسة اجتماعيًا أو حزبيًا أو أيديولوجيًا أو سياسيًا، وتمثل في مجملها خليطًا لمختلف التيارات والفئات، وبدلًا من أن يكون ذلك عامل قوة لها، لكنه تحول إلى عامل ضعف، كانعكاس لحالة التمزق التي يشهدها المجتمع اليمني طائفيًا وقبليًا وسياسيًا وأيديولوجيًا واجتماعيًا، الأمر الذي أثر على كثير من أعضاء السلطة الشرعية وجعلهم يميلون إلى المشاريع الضيقة التي تتكرس على الأرض بعيدًا عن المشروع الوطني الجامع، بل ويتحركون كلٌ وفقًا للمشاريع الصغيرة للفئة التي ينتمي إليها، ويستغل بعضهم وظيفته الرسمية في خدمة المشاريع الصغيرة للفئة التي ينتمي إليها.
2- ضبابية أهداف الحاضنة الإقليمية للسلطة الشرعية:
من المؤكد أنه لولا تدخل التحالف العربي عسكريًا ضد الانقلابيين لكان أكثر المسؤولين في السلطة الشرعية اليوم ضمن سلطات الانقلابيين، ولما أعلنوا وقوفهم ضد الانقلاب والانضمام إلى المقاومة الشعبية ضده، ويعني ذلك أن هذه السلطة تعمل وفقًا للمبدأ الطاغي عليها، وهو "الدوران مع المصلحة حيث دارت"، فهي لم تستمد شرعيتها من الشعب اليمني حتى يمكنه محاسبتها وعزلها، ولكنها تستمد شرعيتها من شرعية الرئيس عبدربه منصور هادي، ومن التحالف العربي، وبالأصح من السعودية والإمارات. ولهذا، فالشعب اليمني غير قادر على تغيير هذه السلطة ومحاسبتها، خاصة في مثل هذه الظروف، ولكن دولتي السعودية والإمارات هما القادرتان على ذلك.
تدرك كل من السعودية والإمارات أن هذه السلطة هشة وفاسدة، وتدركان أيضًا أنه بالإمكان الدفع بهذه السلطة للتحرك وتوحيد الهدف ودعمها بالقوة اللازمة. لكن التباينات على الأرض بين السعودية والإمارات، وضبابية مواقف كل منهما حول ترتيبات ما بعد الحرب، وعدم وجود بديل قوي وموثوق به من قبل الدولتين، كل ذلك شجع أكثر أعضاء السلطة الشرعية على ممارسة الفساد، وعدم الجدية في الحرب على الانقلاب، وافتعال معارك إعلامية جانبية تثير قلق ومخاوف السعودية والإمارات معًا، خوفًا من ترتيبات ما بعد الحرب والخشية من فقدان وظائفهم ومصالحهم وغيرها.
3- تخمة الموظفين والتنافس على الفساد:
رغم عدم تجانس السلطة الشرعية، وافتقاد أغلب أعضائها للكفاءة والخبرة، وكونها أيضًا سلطة بلا هدف وطني كبير يجمعها، ومع ذلك فهذه السلطة تعاني من تخمة في عدد الموظفين، من وزراء ومحافظين ووكلاء وزارات ووكلاء محافظات ودبلوماسيين وقيادات عسكرية وأمنية، وتذهب إيرادات المحافظات المحررة والدعم الخارجي كرواتب باهضة لهؤلاء المسؤولين، والذين استحدث كثير منهم وظائف ومناصب لأبنائهم وبناتهم وزوجاتهم وأزواج بناتهم وغيرهم من الأقارب.
وبذلك يبدو الأمر وكأن أكثر المسؤولين في السلطة الشرعية يتنافسون على ممارسة الفساد والاستحواذ على إيرادات الداخل ودعم الخارج بدون ممارسة أي عمل يعود بالنفع على المواطنين. وفي نفس الوقت، يعاني مختلف الموظفين المدنيين وحتى الجنود في جبهات القتال من شظف العيش ومرارة الجوع هم وعائلاتهم بسبب انقطاع الرواتب لعدة أشهر، وهي رواتب بمبالغ قليلة يمكن صرفها لولا الرواتب الباهظة التي تذهب لعدد كبير من المسؤولين هم وأقاربهم بدون أي عمل.
ما سبق يؤكد أنه لا فرق بين السلطة الشرعية وسلطة الانقلابيين الحوثيين، باستثناء أن الانقلابيين ينهبون الإيرادات ولا يصرفون رواتب الموظفين بدون أن يلهيهم ذلك عن مشروعهم الانقلابي الطائفي والعنصري. أما معظم المسؤولين في السلطة الشرعية، فقد انشغلوا بالأموال والمناصب وتوظيف الأقارب، ونسوا المشروع الوطني الكبير الذي يفترض أن يكون الهم الأول والوحيد بالنسبة لهم. وقد أثر ذلك على أداء النزيهين والمخلصين للوطن في السلطة الشرعية، وجعلهم غير قادرين على تحقيق أي شيء بمفردهم، فالعمل من أجل المشروع الوطني الكبير يقتضي تعاون وتكاتف الجميع.
4- اختراق المخلوع صالح للسلطة الشرعية:
كيف يمكن تفسير هذه الحقيقة: بعض كبار المسؤولين في السلطة الشرعية كانوا من كبار المسؤولين الموالين للمخلوع علي عبدالله صالح، وكان بعضهم يحضرون حشوده في ميدان السبعين بعد اندلاع ثورة 2011 الشعبية السلمية ضده، وتكرر وقوفهم كثيرًا بجانبه في منصة ميدان السبعين وهو يلقي خطابات أمام أنصاره يهاجم فيها شباب الثورة، ويوجه لهم أحيانًا تهمًا لا أخلاقية.
لم يعد خافيًا أن المخلوع علي صالح تمكن من اختراق السلطة الشرعية التي تتخذ من العاصمة السعودية الرياض مقرًا مؤقتًا لها، والغريب هو أن تلك اللعبة انطلت على الكثيرين، وشمل الاختراق الوظائف الرسمية العليا والوظائف العسكرية واختراق وسائل الإعلام الرسمية.
والنتيجة أن هذا الاختراق أسهم بشكل كبير في خلخلة السلطة الشرعية وإضعافها من داخلها، وممارسة الفساد بلا حدود، والكشف عنه أمام الرأي العام وبطريقة تبدو منظمة ومنتقاة، وتهدف بشكل عام إلى التشويه المتعمد للسلطة الشرعية أمام المواطنين، وتحريضهم ضدها، بما من شأنه خدمة الانقلاب.
يضاف إلى ذلك، هشاشة الأداء الإعلامي للسلطة الشرعية، والذي فشل في إيصال صوت القضية اليمنية وانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها المليشيات الانقلابية إلى الرأي العام العربي والدولي، وفشل أيضًا في إيصال أي رسالة إعلامية وطنية هادفة موجهة إلى الداخل، رغم أن الإعلام يمثل نصف المعركة، وكل ذلك نتيجة اختراق المخلوع علي صالح لإعلام السلطة الشرعية، لدرجة أنه حتى وكالة "سبأ" الرسمية التابعة للسلطة الشرعية، والتي تمثل المصدر الأول والرئيسي لأخبار السلطة، يرأسها ويديرها إعلاميون موالون للمخلوع صالح، وبعضهم يجاهرون بولائهم له عبر مواقع التواصل الاجتماعي بوضوح.
5- التشكيلات العسكرية المناطقية والدور الإماراتي السلبي:
أسهمت التشكيلات العسكرية المناطقية، التي أنشأتها ودربتها ومولتها دولة الإمارات في المحافظات الجنوبية، في إضعاف السلطة الشرعية والحط من هيبتها ومكانتها، مما جعل هذه السلطة تبدو محل استخفاف واستهجان القطاع الأكبر من الشعب اليمني. وأصبحت دولة الإمارات، وعبر التشكيلات العسكرية المناطقية الموالية لها، صاحبة النفوذ الأكبر في اليمن، وبشكل سلبي، يمثل احتقارًا للسلطة الشرعية وانتهاكًا للسيادة الوطنية بشكل عام، ويخالف الأهداف التي تدخل التحالف العربي لأجلها في اليمن، بقيادة السعودية، وبطلب من الرئيس الشرعي للبلاد عبدربه هادي.
ورغم الانتقادات الموجهة لدولة الإمارات من قبل عدد كبير من المواطنين والناشطين اليمنيين بخصوص دورها السلبي في اليمن، والذي يصب في مصلحة الانقلابيين، إلا أن الإمارات ترد على هذه الانتقادات بإجراءات استفزازية، مثل محاولة إنشاء تشكيلات عسكرية موالية لها في محافظتي مأرب وتعز، ومنع الرئيس هادي وبعض المسؤولين من العودة إلى العاصمة المؤقتة عدن، بالإضافة إلى اتهام المنتقدين لها بأنهم إرهابيون وإخوان مسلمون وعملاء لقطر، وغير ذلك من التهم السخيفة.
وأخيرًا، ينبغي الإشارة إلى ظاهرة شعبية إيجابية تتنامى يومًا بعد يوم، وتتمثل في الانتقاد الواسع لظاهرة الفساد المالي والإداري، ويعني ذلك أن كل مظاهر الفساد موثقة، وأنه سيأتي اليوم الذي سيحاسب فيه جميع الفاسدين على أعمالهم، ولن يقبل بهم الشعب كمسؤولين ونافذين بعد انتهاء الحرب واستقرار الأوضاع، كما أن تنامي الوعي الشعبي في هذا الجانب من شأنه الحد أو التخفيف من مثل هكذا فساد في المستقبل.