[ ديوان الشلفي ]
مثلما مات الروائي محمد عبد الولي غريباً عن وطنه في حادثة انفجار تلك الطائرة، يبدو أن الشعراء في طريقهم للموت، ولكن دون الحادثة إلى انفجار الطائرة !
***
جلي أن العام 2020 كان عاماً حاملاً لمؤشرات عودة جيل الشعراء اليمنيين، والذين برزوا في منتصف تسعينيات القرن المنصرم، فهذا الجيل الذي تميّز خلال الأعوام 1995-2005م بعطاءه الشعري المغاير للمألوف والمخالف للسائد، بقدر ما شكّل علامة فارقة في المشهد الثقافي، بقدر ما أشر إلى شلوليه منتوجه.. أغلبه توقف أو توارى لأسباب كثيرة، بعضها عائد إلى أوضاع شخصية قاهرة واجتماعية خاصة، وبعضها عائد إلى الاشتغال في المجالات التي تبتلع القصيدة لحساب الصحافة، والبعض الأخير إلى مبررات تبدو للقراء واهية!.
ولكن..
هناك من كسر تلك الحالة التي باتت قاعدة، ومنهم الشاعر عبد الوكيل السروي والشاعر احمد الزراعي والشاعر احمد الشلفي، والذين قالوا (لا) لاعتزال الشعر على حساب الانتماء لمدن الاسمنت والخرسان، ولا، للتخلي عن المحبوبة المسماه في قواميس الكلام بالشعر لحساب كل ما هو جامد وفاقد للروح.
قمر يتبعني:
الشاعر احمد الشلفي والذي لم يصدر في بداياته سوى ديوانه الشعري (تحولات الفتى والمساء 2001م) عاد للمشهد بديوانين، بينهما فارق زمني لا يتجاوز العقد.. لقد أناخ الجمل وأصدر ديوانين هما (يد غافلة) عن دار اروقة في العام 2012م و(قمر يتبعني) في العام 2020م عن دار كنوز المعرفة.. ويستعد لاصدار ديوانه الشعري (لا تخبر النجمة) عن دار اروقة ،والتي باتت مقصداً لكل المبدعين.
قمر يتبعني...يبدو عنواناً خارج سياق السياسة، والتي انغمس في اتونها الشلفي على عكس قصائد الشاعر أحمد الزراعي المنغمسة في السياسة على غير عادته في التغني للمحبة والمدن المنسية والذكريات المبددة في السُدم، ولعل اشارته في اهداء الديوان بأن الملاذ الحقيقي يكمن في رمزيته في الشعر "في انتظار شيء ما.. ألوذ بنفسي، حيث غيابك يملأ المكان" يكشف للقارئ عن تلك الرغبة المتقدة في الانتصار على مدن الاسمنت والسياسة المعلولة والعودة إلى الجذور (القرية-الشعر)!
بين دفتي الديوان 29 قمراً في 72 صفحة، الغربة..الحنين..التلاشي ..الثلاثية البارزة في الديوان ..الثلاثية التي رغم ان الشاعر جلببها بغير المتوقع والمفاجئ الاّ ان انكساراتها بقت ظليلة ورائحتها تنتشر مع كل صفحة من صفحات الديوان..
كل غريب يتخطف قلب الاخر:
تجسّد قصيدة "منفى" واحدة من النصوص التي تجنح نحو البحث عن الذات في الوطن البعيد..حيث تصير الروح دون الوطن بلا أجنحة ..حيث يصير الانسان مغلفا بالحنين ..يموت روحيا غريبا قبل ان يموت جسده!
انه المنفى المرادف للقهر.."بلا روح /وبلا اجنحة/ كطير/ يحلق خارج سربه/اسال كيف ابتهج/ بعيدا عن بلادي/وعن اصدقائي/وعن أهلي/ هل تشعرون مثلي / بدوار المنفى ؟"
ويتابع مغايرا كعادته بكلمات بسيطة ودالة رغبته في العودة الى الوطن "أحب ان ارجع إلى وطني/ولا أحب ان اصير من النادمين"
ولكن لما عبر الشاعر بكلمات دالة وبسيطة عن تلك الرغبة ..هل بدى الوطن أبا والشاعر طفلاً برئيا يبوح بمكنونه ببراءة الطفولة؟ "أحب أن أرجع إلى وطني"
حكايات صغيرة:
هل بدت مطالب أو أمنيات الشعراء مستحيلة ؟ أو انها تتحقق خلاف المتوقع والمرجو، ففي قصيدة "حكايات صغيرة" يأمل أو يسأل إن جاز المعنى الوردة ان تبتسم، لكنها على غير المتوقع تتفتح
أطلب من الوردة ان تبتسم/فتتفتح/
يطلب من الغصن ان ينحين فيجيبه على غير المتوقع "أطلب من الغصن ان ينحيني/فتبرعم/يا لهذه الكائنات البسيطة / كيف تتلون!"
في قصيدته بلا حلم والتي يحلو لي تصنيفها ضمن الومضة يكسر السائد الشعري كعدم الاهتمام بالضرورة الشعرية والهروب الى ما لانهاية.."تلفت حولي / الاشياء تعدو معي / وظلي يبتعد ايضا/ كان سوق الملح بذاكرتي."
ويتابع في قصيدته "وطن من نور" كسر السائد، وذلك باللعب على المتناقضات..مسكون بالحب.. يحيل إلى السكينة، ومسجون بالاشواق نذير بالخطر اما بالماضي فالى ما يحيل؟ هل لسكينة الحب ام للسجن؟!
"مسكون بالحب/ مسجون بالاشواق/ وبالماضي/ رأيتك تغتسلين على قارعة حنيني /وطنا من نور /رأيتك فلقا يتدلى وسط الظلمات/ صريع اغانيك أنا.."
أنت
الكلمات لا تأت من العدم او تتخلق من السراب، بل من وقائع معاشه والشاعر يجاهد ربما..في العودة الى فؤاده – لا اشارة هنا الى القلب لكون القلب متقلب- "تسكنين دمي/تسكنين قافيتي/المسافة بيني وبينك صفر/المسافة بيني وبينك ..أنت../كلما هبت الريح اطفأت شوقي"
قمر يتبعني
الشاعر كما القمر ..يوحي للقمر بالكلمات دون ان يشير إليه، لكن ان يجعل القمر يتبعه، قالبا وظيفته الحبية –تشير في مرموزيتها الى التبعية- الى ان يجعله تابعا، فتلك قصة اخرى يجدر تناولها بشيء من الحذر المغلف بالدهشة والغربة!
يمشي القمر معي/فاتحا ذراعيه في السماء للابد/ يبدو مكتملا/ نواصل المشي معا/ على وقع صوت فيروز/ القادم من قارب صغير(يا طير يا طاير) /لماذا تغني فيروز؟
ويتابع..كاشفا بذلك العنوان المؤدي الى معنى، ليكشف عن معنى اخر "كان القمر يتبعني/خبأ بعض قصائدي وحكاياتي /ومضى خلف تلك الغيوم يبحث عن سماء جديدة"!
اخر تابوت
تشكل قصيدة اخر تابوت نزاعا بين رغبات الشاعر في التحرر من اسار السياسة ودهاليزها، والعودة إلى الحاضنة الاولى للكلمة الشعر ..لم اكن انتوي الكتابة/كنت اتمشى /وكانت الكلمات تتبعني/افكاري تتساقط مني /الحرب والضحايا/الغربة والتشرد" وينهيها/ كذبة المتحاربين الضحايا وحدهم لا يعرفون الكذب /المتحاربون يذهبون للمفاوضات/ والقتلى للنعوش.
ينهيها دون ان يشير إلى ما سينتهي الشاعر الذي يتمشى هذه اللحظة دون أي نية للتغريد!
كم تبقى منك!؟
قصيدة "مواسم الشجن" نظرا لخصوصية تجربتها سأتناولها بشكل منفرد في الحلقة القادمة..لاختم هذه القراءة باخر قصائد الديوان ..قصيدة "مجيئ".. والتي ختمها بعبارة مروعة الى هذا الحد "أحبك يا مطرا وسماء"
أليس المطر هو الارزاق التي انقطعت عن الوطن، والسماء هو الوطن في اسمى تجلياته!
الطائرة المقرر لها ان تعود للوطن لن تنفجر على العموم حاملة معها اليد التي باغتت الشلفي لتدفعه قدما للقمر ..والقمر ...
للبقية تتمة..