[ المخرج الفلسطيني نصري حجاج المولود عام 1951 في مخيم عين الحلوة بجنوب لبنان (مواقع التواصل الاجتماعي) ]
في صباح نمساوي غائم وممطر بحث "اللاجئ الخالد" الأبدي عن بقايا جسده وذاكرته وهويته التي توارت عن برقع الليل، وأعلن أن لا أرض تتسع لجسد حبيبته فلسطين، وأن لا أرض بشرية تحفظ ذاكرته المثقوبة بالهموم، وأن لا أرض تعترف بهويته الفلسطينية المثقلة بالإنسانية.
جسده المثقل بالسرطان والمثقوب بالإبر كان يتوق إلى النوم في أحضان حبيباته اللاتي احتضنّه في طفولته "الناعمة" وشبابه وعنفوانه وكهولته وشيخوخته.
هو العاشق الأبدي للفن والحياة، اللاجئ الخالد -كما كان يقول عن نفسه- من الظلم، المسافر الأبدي من دون حقائب، الحالم الأبدي بعروسه المقدسية، المتعثر دوما بجراح شعبه ووطنه، المغني الأبدي من دون ربابة كصديقه درويش يصرخ من وراء المنفى "آه يا جرحي المكابر.. وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر.. إنني العاشق والأرض حبيبة".
الحكواتي المتوحد بالسينما
الحبيبة الحرباء المتحولة التي تغير اسمها كل مرة، ولون بشرتها وعينيها، وشعرها وصوتها لتتخفى عن الأنظار، والعدو المتربص في كل البقاع والمتخفي في ذاكرة الحنين، لكي تلتقي اللاجئ العاشق وتهبه الحب والكرم والعطف والحنان والأمومة، فتسمى مرة قرية الناعمة في الشمال الفلسطيني، ومرة أخرى مخيم عين الحلوة في الجنوب اللبناني، ومرة ثالثة صيدا، ومرة سوريا، ومرة تونس.
وهي الحبيبة نفسها التي أراد تحنيطها في اسم ابنته شام، ومثلما وهبته حبيباته كل هذا الإحساس والرفق والمحبة أراد أن يردّ لهن الجميل ويهبهن كل ما تبقى من جسده الراشح بالثقوب، فكانت وصيته الأخيرة، مثلما كتبتها ونشرتها زوجته عبير، بأن يحرق جسده وينثر رماده في أرض حبيباته وأوطانه الصغيرة، الوصية الموحية المعبرة كلقطة أخيرة في أحد أفلامه، التي بلغ فيها الفعل الفني ذروته الرمزية القصوى.
ولكن الأكيد أن نصري حجاج همس في أذن زوجته عبير بعد أن كتب وصيته، وشدد على أن تكون الصرّة الأكبر من الرماد للحبيبة الأولى والأخيرة المنقوشة على حجر القلب والمعلقة بمشكاة الروح فلسطين.
حجاج الذي تحول إلى قصة فنية ولحظة ذروة من الفعل الإبداعي ولقطة سينمائية نادرة يذوب فيها جسد البطل ورماده مع جسد الحبيبة وروحها ويتوحدان في قبلة أبدية تنتهي على إثرها القصة والفيلم والحكاية، فهل هناك نهاية للموت أكثر شاعرية وفنية ورمزية من هذه؟
ولأن حجاج متوحد مع الحكاية والفعل القصصي الفني، لذلك عاش ومات "حكواتيا" واختار لنفسه هذه النهاية والوصية المعبرة السينمائية، وهو ما يؤكده بنفسه في أحد لقاءاته "أستطيع القول إني حكواتي، وإنني أستمتع بحكاية القصص، فقد أتيت إلى السينما من الأدب".
أنسنة الموت وترميزه
حجاج الذي توفي يوم 11 سبتمبر/أيلول الماضي في فيينا بعد صراع مع المرض، تعوّد في كل أعماله السينمائية أنسنة الموت وترميزه وتخليصه من النظرة العامية البسيطة، والسموّ به إلى الآفاق الفلسفية والمعاني الروحية الصوفية، وترجم ذلك في أفلامه "في ظل الغياب" و"كما قال الشاعر" و"العصفور" .
وفي "رحلة الشتاء والصيف" بين الصرخة الأولى والشهقة الأخيرة، حمل نصري حجاج عبء قلبه وحده، وتاه في الدروب والبلدان والبقاع باحثا عن بقايا طفولته وترهل جسده وثورة روحه بين مخيم عين الحلوة الذي ولد فيه، ومقبرة صيدا حيث ترقد أمه، وفي تونس حيث رتق ذاكرته الفلسطينية وأحلامه السينمائية، وفي سوريا حيث تفتحت قريحته الفنية والشعرية، مسترجعا في كل ذلك بيت جدّه الأموي صقر قريش عبد الرحمن الداخل وصرخته المبكية الدفينة السرمدية "أيها الراكب الميمم أرضي، أقر من بعضي السلام لبعض، إن جسمي كما علمت بأرض، وفؤادي ومالكيه بأرض". وكأنه يستجدي حبيبته وأرضه وحلمه وفلسطينه على لسان درويش "فبعضي لدي وبعضي لديك، وبعضي مُشتاق لبعضي، فهلّا أتيت".
الهوية والبحث عن ذاكرة المكان
حجاج المولود عام 1951 بمخيم عين الحلوة (جنوب لبنان) لأب لاجئ من بلدة الناعمة في سهل الحولة بالجليل الأدنى وأم لبنانية، والحاصل من لندن على شهادة في الأدب الإنجليزي من الجمعية الملكية للفنون والآداب، وماجستير في السياسات الاجتماعية من جامعة "ميدل سكسك" البريطانية، هو الفنان والكاتب والمثقف والمناضل الذي شارك في صفوف الثورة الفلسطينية، ورافق بدايتها وذروتها وشتاتها وانكساراتها، وصادق مبدعيها ورموزها، مثل ناجي العلي ومعين بسيسو وسميح القاسم ومحمود درويش وياسر عرفات، وكتب عن الثورة وتوحد بها.
وقد استغل حبه للسينما ووظفه في خدمة القضية الفلسطينية والقضايا الإنسانية من لجوء وهجرة ووطن وهوية وحوار بين الثقافات، وقد مثلت قضية الهوية إحدى القضايا الكبرى التي وسمت كل أعماله السينمائية، فصار يطاردها ويلاحقها عبر ذاكرة المكان والحنين والحياة وصورة الوطن المفقود وفكرة الموت أيضا.
وقد كان فيلمه الوثائقي "ظل الغياب" الذي حاز جائزة "المهر" البرونزي للأفلام الوثائقية في مهرجان دبي السينمائي عام 2007 ترجمة حقيقية لهذه القضايا الإنسانية التي يشتغل عليها، وخاصة قضية الهوية وعلاقتها بالذاكرة مكانا وحنينا وخيالا، حيث تتحرك الكاميرا بلمسة فنية شاعرية للتنقيب عن هوية الفلسطيني الضائعة، عبر عشرات المقابر لمبدعين وثوار ورموز فلسطينية دفنوا في الشتات بأنحاء متفرقة من المعمورة وحرمتهم إسرائيل من حقهم ووصيتهم الأخيرة البسيطة بأن يدفنوا في وطنهم الأم فلسطين.
وعن الفكرة الأولى التي خامرته لكتابة وولادة فيلم "ظل الغياب"، يقول حجاج في أحد حواراته "في عام 1999 وفي أول زيارة لي إلى فلسطين بعد حصولي على الرقم الوطني، ذهبت لأزور قرية أجدادي (الناعمة) في سهل الحولة في الجليل الأدنى، وحين وطئت قدماي أرض الناعمة أصبت بحالة لم أعهدها من قبل وأحسست بأنني مقبل على الموت، وفي تلك اللحظة وفي مواجهة مع سؤال الموت تداعت في ذهني كل قصص الموت الفلسطيني وارتباطها بالمكان، وسألت نفسي السؤال الذي لم يخطر على بالي قط: لو أنني متّ الآن فهل سأتمكن من أن أدفن في الناعمة أرض أجدادي وحيث ولد أبي وحيث كان حلمه بالعودة والموت؟ من سؤال العلاقة بين الموت والحياة والوطن والمنفى كما في تجربة الفلسطيني ولدت فكرة فيلم (ظل الغياب)".
ويؤكد الناقد السينمائي أمير العمري هذه العلاقة المتينة بين الفيلم وقضية الذاكرة بالقول "إن نصري حجاج في فيلمه (ظل الغياب) مشغول بفكرة الذاكرة الفلسطينية، من خلال البحث في الموت، وفي الشعر، وفي الأماكن، في مغزى العيش المحكوم بالموت، وفي معنى الموت مع وجود الذاكرة التي تحفظ وتحافظ، ولكن أيضا مع الحياة، مع البقاء والاستمرار في التعبير عن رفض الظلم والدعوة إلى رفض الموت، والانتصار للحياة".
وربما من خلال هذا الفيلم وهذه التغريبة نفهم وصيته الموحية التي أرادها انتقاما من العدو الصهيوني الذي حرمه وآباءه وأجداده وأصدقاءه من قبر بسيط في أرضه فلسطين، فاخترع قبرا فنيا أوسع وأشمل يحلق في الفضاء الإنساني الواسع الرحب ولا يتقيد بمكان أو جغرافيا انتقاما من بوتقة المكان وقيوده الضيقة وطوقه، وتوقا نحو عالم سماوي وصوفي وفلسفي أرحب.
العصفور الحالم بالحرية
ولأن حجاج عاش الفقر والظلم والحاجة والتشرد في المنافي الكثيرة، فقد فطم ككل فلسطيني في الشتات على حلم العودة، ورضع من غيمة الحرية المشتهاة، وتلحف برداء الصبر في ليالي الشتاء الباردة تحت زنك المخيمات، لذلك نراه في قصصه وكتاباته وأفلامه ينحاز من دون تردد إلى مبادئ الثورة والحرية وينتصر للطبقات المهمشة المظلومة مهما كان انتماؤها، وقد ترجم قناعاته الإنسانية العميقة هذه في مناصرته للثورات العربية منذ انبلاجها، فنراه يصرح في أحد حواراته "منذ أن خرج الشعب السوري إلى الشوارع يهتف من أجل حريته، وقفتُ إلى جانب هذا الهتاف، كما وقفت إلى جانب هتاف التونسيين والمصريين والليبيين واليمنيين، لا أستطيع أن أكون إلا مع الشعوب في تطلعها إلى الحرية والعدل والمساواة وتخلصها من القهر والتجويع والاستعباد".
هو الطفل الحالم بحق العودة وحق احتضان تراب أمه فلسطين، قلبه يقطر إحساسا ورقة وشعرا متأثرا بالبيئة اللبنانية التي ولد فيها ومدرسة الرحابنة التي تربى عليها، يقول "في طفولتنا في مخيم عين الحلوة كنا نظن أن الناس جميعهم في شتى أنحاء العالم يعيشون مثلنا في المخيمات تحت سقوف الزنك، وأنهم حين يهطلُ المطر عليه يحلمون مثلنا بفلسطين".
وفي هذا السياق نفسه جاء فيلمه الأخير "العصفور" الذي عالج فيه قضية العبودية والخنوع وطوق السجون في مقابل التوق إلى الحرية، من خلال قصة أم مسجونة في أحد السجون العربية تنجب طفلتها داخل هذا المعتقل.
ويفضح الفيلم -الحائز جائزة الزيتون الذهبية لأفضل فيلم روائي قصير في مهرجان القدس الدولي- المثقف الخانع المهادن من خلال شخصية السجين الذي يجرّه السجان ويوبخه وهو في ثيابه الرثة من دون أدنى مقاومة منه.
كما تتكشف صورة السجين حين يحاول أن يقصّ على الطفلة البريئة قصة العصفور الملون، فتسأله الطفلة المولودة في السجن: ماذا يعني عصفور؟ وهي التي لم تغادر باب السجن يوما ولا تعرف معنى "عصفور"، في كوميديا سوداء من المخرج والكاتب نصري حجاج.
وكأنه أراد أن يروي قصة أجيال المناضلين الذين يقبعون في السجون، وكذلك قصة الشعوب العربية التي ولدت وتعيش في أوطان محاصرة نفسيا وجسديا بالقمع والتعذيب والترهيب، وهي أقرب إلى السجون منها إلى الأوطان، إنه الحلم نفسه الذي طالما راود عصفور الحرية الذي ضلّ طريق العودة إلى السينما، من غيره؟! المبدع الفلسطيني الحر نصري حجاج.