[ لوحات للرسّام غيسيبي أرسيمبولدو (وكالات) ]
ولد الرسّام غيسيبي أرسيمبولدو (Giuseppe Arcimboldo) في مدينة ميلانو الإيطالية عام 1526، وهو سليل عائلة من الرسّامين وعملاق آخر من عمالقة عصر النهضة المختصين في رسم البورتريه لكن بطريقة غير معتادة.
استخدم أرسيمبولدو تركيبات ذكية للفواكه والخضروات والنباتات وحتى الحيوانات وعناصر أخرى، بدلاً من ملامح الوجه الغنية بالتفاصيل التي يتوقعها المرء في أي بورتريه.
قبل أن يختص أرسيمبولدو في رسم البورتريه، عمل في "فينيراندا فابريكا" (Veneranda Fabbrica)، وهي منظمة أشرفت على بناء وتطوير الكاتدرائيات الشاهقة في ميلانو. وكانت وظيفته آنذاك الرسم على النوافذ وتزيين الأسقف، وقد كان باديًا آنذاك أن إيطاليا أمام رسام عملاق آخر لا يقل موهبة عن دافنشي ومايكل آنجلو.
كان أرسيمبولدو يبلغ من العمر 36 عامًا حينذاك، وقد ساعدته موهبته التي ظهرت في الكاتدرائيات في أن يغادر إيطاليا ليصبح رسامًا لأباطرة الحكم في روما وفيينا ورودولف وبراغ، إذ تسابقوا للحصول على بورتريهات من يد العبقري الذي افتتن عقله بالألغاز والتراكيب الغريبة بعيدًا عن توازن ووضوح لوحات عصر النهضة.
إعادة تعريف البورتريه
تلك الطريقة الغريبة لاقت حفاوة شديدة في البلاط الملكي لماكسيميليان الثاني (الإمبراطور الروماني) والأوساط الفنية من حوله. والسبب هو فلسفة أرسيمبولدو التي رأت في الغلال والفاكهة والخضروات بديلا لملامح البشر، مما جعل إبداعاته هي الأكثر غرابة واستثنائية في عصره، وفتح مناقشات حادة حول ما يجب أن يكون عليه البورتريه.
وكان أول عمل من الفاكهة والخضراوات هدية من أرسيمبولدو إلى ماكسيميليان (الذي كان مفتونًا بعلوم الطبيعة) في يوم رأس السنة الجديدة 1569. وهو مجموعة من 4 لوحات باسم "الفصول الأربعة"، تتكون من 4 صور شخصية (بورتريهات) من تكوينات معقدة من الفواكه والخضروات والزهور والحياة النباتية الخاصة إما بالصيف أو الخريف أو الشتاء أو الربيع.
وتتخلل مجموعة اللوحات الكثير من الرموز والتورية والإشارات. على سبيل المثال، يرتدي الشتاء عباءة مكتوبا عليها حرف "M" إشارة إلى ماكسيميليان وتشبه الثوب الذي امتلكه الإمبراطور بالفعل، كما توّج الشخصيات بفروع الأشجار أو شظايا المرجان أو قرون الأيل.
العناصر الأربعة
شجع اهتمام ماكسيميليان بالعالم الطبيعي والبيولوجيا والمجالات الأخرى، أرسيمبولدو لرسم مجموعة أخرى بعنوان "العناصر" (The Elements)، بدأها عام 1563 واكتملت عام 1566. وقد أثبتت المجموعة مقدار حب الإمبراطور للعلوم الطبيعية حيث لاقت المجموعة نفس حفاوة الفصول الأربع.
وتتألف سلسلة العناصر من 4 أجزاء هي: الماء والهواء والنار والأرض. والعناصر الأربعة مرسومة في هيئة وجوه بشرية من زاوية جانبية. وقد استخدم أرسيمبولدو الأسماك لرسم بورتريه للماء، واستخدم الطيور لرسم بورتريه الهواء، كما استخدم الأخشاب والمعادن لرسم بورتريه النار، وعلى نفس النحو استخدم الحيوانات لرسم بورتريه للأرض.
كان هدف أرسيمبولدو التعبير عن حجم الانسجام الذي تتمتع به تلك العناصر بالرغم من الفوضى التي تعمها على أرض الواقع. وقد نجحت السلسلة في تحقيق الهدف المرجو منها، فقد قوبلت بحفاوة وثناء من قِبل ماكسيميليان الذي أخذها على محمل شخصي. فقد اعتبرها إشادة من الرسّام بقواه التي تشبه قوى الطبيعة، وأن هذا هو دافع أرسيمبولدو لرسم الطبيعة على هيئة بورتريهات بشرية.
التوسع في التورية
شجع النجاح الملفت الرسام على إدخال عناصر أخرى من الطبيعة في بورتريهات لشخصيات مختلفة. فرسم بورترية لولفغانغ لازيوس، العالم الإنساني والمؤرخ الذي خدم الأباطرة الرومان المقدسيين في بيت هابسبورغ، بعنوان "أمين المكتبة" عام 1563. واللوحة عبارة عن إنسان مكون بالكامل من الكتب التي تُشكِّل ملامح وجهه.
نفس الأمر حدث في لوحة "القانوني" أو "المحامي" (The Jurist) المرسومة عام 1566، والتي اعتمد فيها على اللحوم والأسماك لتصوير ملامح الوجه، بينما يتكون الجسم من أوراق ومستندات قانونية.
ويُعتقد أن الفقيه الألماني أولريش زاسيوس هو الشخص المقصود، حيث يلفت متحف ستوكهولم الوطني النظر في دليله إلى أن زاسيوس هو المحامي.
توفي أرسيمبولدو عام 1593، لكن سمعته تنامت حتى بعد موته إلى أن أطلق عليه رسامو القرن العشرين لقب "جد السريالية"، وكان قدوة شخصية لسلفادور دالي رائد الفن السريالي.
وقد اختلف كثيرون حول السبب الذي دفع أرسيمبولدو لرسم الناس على هذا النحو، حتى وصلت مغالاة البعض لأن اعتبروه مجنونا ومختلا عقليا، بينما رأي آخرون أنه كان يسخر من البلاط المقدس والأباطرة برسمهم على هيئة موحشة لعناصر الطبيعة. ومع ذلك، يظل ولع الرسّام بالعالم الطبيعي واضحًا، سواء في الرسوم الملكية أو البورتريهات المحلية.