[ عمل لـ أندريا غارلاند ]
تعرض الكاتبة والمؤرخة الألمانية أوتا فريفرت في كتابها "سياسة الإذلال - مجالات القوة والعجز"، الصادر حديثاً عن "دار ممدوح عدوان"، جوانب عديدة للعار الذي يلحق بالأفراد وبالدول، العار الذي تصنعهُ سياسات خاصّة، ومن ثمّ تستثمرهُ في إخضاع الآخرين. الكتاب الصادر بترجمة الأكاديمية هبة شريف عن الألمانيّة، بحثُ يمتدُّ من عصور التشهير في السّاحات العامّة إلى عصور التشهير عبر الإنترنت، وهو بحثُ في الكرامة الإنسانية وفي كرامة الأوطان.
بعد تحليل عددٍ كبيرٍ من حوادث عامّة لتشهيرٍ وإذلال، حوادث جرت في الشوارع أو في أروقة الدبلوماسية، عبر مقاطع مصوّرة تداولها روّاد الإنترنت لاستعراض أخطاء الآخرين وتوبيخهم، وتلقينهم دروس الطاعة، تخلص الباحثة إلى حقيقة أنّ الإنسان لم يغادر العصور الوسطى بعد، حيثُ كانت تسود وسائل عقابيّة قائمة على امتهان كرامة الإنسان أمام أبناء جنسهِ، وما تزال أساليب القرون الوسطى متخفيّةً في المؤسسات وفي المجتمعات، من خلال التنمّر، والإذلال الناعم.
تعود فريفرت إلى ممارسات الإذلال في أوروبا، على نحو خاص، في القرن الثامن عشر، وتستعيد كذلك ممارساتهِ في ثقافات أخرى غير مركزية. إنّها ترتّب ذلك الإرث البشري لصناعة الإذلال وتشير إلى التغيّر الذي أعقب الحرب العالمية الثانية. لكن ما تزال القوانين التي تناهض الإذلال في طور النّمو، فالإرث العميق من العار الذي ساد عصور البشرية أكثر حضوراً، خصوصاً أنّ الدول ما تزال تمارس سياسات الإذلال البينية. وكما من المعروف، بوجود الحروب والوحشية يتعزّز فضاء الإذلال. وتستشهد الباحثة بحوادث شهدتها نزاعات عرقية أو دينية، حيثُ تكون ممارسات الإذلال بداهةً لدى المرتكبين.
ما تزال أساليب القرون الوسطى متخفيّةً في المجتمعات
تحدّد الباحثة البنى التي تجعل من موقفٍ ما موقفاً مخزياً، وبالتالي، ما يجعله موقفاً تأديبياً. إذ إنّ المواقف التي تحقّق العار، لا تحدثُ في الخفاء، وإنّما يكون الجمهور أحد أطراف العلاقة التي تجمعُ من يتعرّض للإذلال مع من يمارسهُ. وعلى ضوءِ ذلك، فإنّ الجمهور الذي يرى مشهد العار لربما يتعرّض، بأفرادهِ، إلى الرّدع. على الرغم من أنّ جمهوراً من البشر يُشاهد امتهان كرامة إنسان، تكون إنسانيتهُ موضعَ تساؤلٍ أيضاً. الأمر الذي تنبّهت لهُ القوانين في الأزمنة الحديثة، فالعقاب الذي كان يحدث على الملأ أمام جمهور غفير، بات يحدث في السجون.
كما يُمارَس الإذلال من شخص قوي صاحب سلطة على شخصٍ ضعيفٍ وخاضع، إذ تتكثف في مفهوم الإذلال أشكال علاقة السيد/ التابع كافةً؛ الرجل/ المرأة، الأب/ الابن، الدولة/ المجتمع، وأخيراً بين الدول المنتصرة والمهزومة في الحرب، ما يتجسّد في الاتفاقات التي تلي الحروب. وتذكر الباحثة: "الذي يجعل الخزي شيئاً بغيضاً… الإدراك المؤلم لسلطة وقوة الفضح العلني، وهو موقف لا يمكن التخلّص من آثاره، فهو يدخل تحت الجلد، ويظلّ هناك داخل جسد من تعرّض للخزي".
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول، وتعرض الباحثة في الفصل الأول ممارسات الإذلال من أعمدة ومقاعد التشهير، والضرب والتوبيخ العلني، وحلق شعر النساء والوسم بالنار، وارتداء الأطواق أو أحجار العار والتجريس، كلها أساليب غابرة تهدف إلى إهانة المعاقب.
وقد كانت العقوبة في العصور الوسطى مرتبطة بالأخلاق، إذ كثيراً ما كانت تعاقب الزوجات المتسلّطات بالتجريس، ومن كان يخرج عن عُرف الجماعات يوصم بالعار، فالإذلال العلني هو سلاح سلطة الجماعة لتحطيم الفرد المختلف.
اهناك قوّة قد يتسبّب الإذلال في إشعالها لدى المعاقَب
بدأت الانتقادات تجاه عمود التشهير منذ القرن الثامن عشر أيضاً، لأنّه لا يصلح شأن الإنسان المعاقب، وإنّما يهدر كرامته. وبدأت السجون تأخذ دورها كمؤسسات عقابية غير علنية. وفي القرن التاسع عشر، بدأ الاعتقاد يسود بأنّ كل عقوبة تهدر شرف الإنسان تنحدر بهِ إلى الحيوان، وبدأ مفهوم "الكرامة الإنسانية" بالظهور في التشريعات، على الرغم من مراعاة الطبقات الاجتماعية واستمرار التمييز بين النّساء والرجال.
تشير المؤرخة الألمانية إلى استعادة النازيين لممارسات التشهير والفضح بهدف "ترسيخ نظام معياري جديد" يمنع اندماج اليهود وبناء علاقاتٍ معهم من أجل الوصول إلى النّقاء العرقي، وهذا المثال يوضّح أيما توضيح قدرة سياسات الإذلال على ضبط سلوك الجماعات. في الفصل الثاني تستعرض المؤرخة أمكنة الإذلال في المدارس والأخويات المغلقة والجيوش، في مجموعات الأقران وعلى الإنترنت أمام الأغراب أيضاً.
وتظهر الباحثة عبر الاستشهاد بالعقوبات المدرسية أنّ الخزي جزءٌ من الحياة اليوميّة. لا سيما مع تضامن الأهل، لأزمانٍ طويلة، مع العقوبات التي يفرضها المدرّس، إلى جانب اعتبار شعور الكرامة لدى الأطفال شعور غير متطوّر. لكن تغير الحال مع منتصف القرن العشرين، إذ باتت ظاهرة "التنمّر" أحد الموضوعات التي تعالجها كتب الأطفال بكثرة، كي يواجهوا قسوة الآخرين ولامبالاتهم بآثار السلوك والكلمات عليهم.
ساسة لإذلال
تأخذ فريفرت الجيش مثالاً عن المؤسسات الشاملة التي تمارس الاحتواء على أعضائها، وذلك باستخدام صنوفٍ عديدة من سياسات الإذلال، فالجيش مؤسسة للتربية العسكرية، وغاية الإجراءات التأديبية الحفاظ على النظام وعلى الروح القتالية للجنود. ترتّب المؤرخة التشهير بدءاً من الجرائد إلى التلفزيون عبر برامج الواقع انتهاءً بوسائل التواصل الاجتماعي التي تراها وسائل "مضادّة للتواصل الاجتماعي"، حيثُ انهارت فيها قدرة الفرد على مواجهة حوادث التنمّر التي قد تطاولهُ.
وتعيد الباحثة في الفصل الأخير بحثها إلى القوانين، لكنها هنا تتحدث عن قوانين لتنظّم علاقات الدول في ما بينها. إذ يُمارَسُ بين الدول ما يمارس بين الأفراد، خصوصاً في علاقات البعثات، فإهانة سفيرٍ بلدٍ ما هو إهانة لما يمثّلهُ.
كما تضرب عدداً كبيراً من الأمثلة في هذا السياق، وتحدثنا عن اقتراب دولٍ من إعلان الحروب بسبب مواقف بروتوكولية، إذ إنّ الكرامة بين الدول تُقاس بالقوة، ومن لا يرفض الإهانة يعدُّ ضعيفاً، وبالتالي تهمّش مصالحه. كما تشير في جانب آخر إلى حالات الاعتذار التي قامت بها دول استعمارية عن ماضيها القاتم. وتضرب مثالاً لذلك زيارة مستشار ألمانيا الغربية فيلي برانت إلى بولندا (1970)، وركوعهِ من غير تخطيط مسبق، كما تقول، أمام نصب تذكاري لضحايا النازية، وقد بات مثلاً يُحتَذى في ثقافة الاعتذار الألمانية. بالطبع لا يغيب عنّا الابتزاز الذي مارسه ويمارسه الكيان الصهيوني باسم "الهولوكست" وغياب أي اعتذار ألماني للشعب الفلسطيني، سواء عما لحق به من دعم ألمانيا لـ"إسرائيل" أو كنتيجة للسياسات النازية وتأسيس الكيان الصهيوني على أثرها.
ينطوي كتاب المؤرخة الألمانية على تلميح إلى تلك القوة التي قد يتسبّب الإذلال في إشعالها لدى المعاقَب، فالصفعة التي طاولت البوعزيزي، صارت ثورةً في بلدهِ. والإذلال قد يحطّم نفوساً، لكنه أيضاً قد يشعل بالغضب نفوساً أخرى، كي تنتفض وتستعيد إنسانيها.