قليل هم قراء القرآن الكريم الذين تجتمع فيهم بعض مما اجتمعت في الشيخ الراحل محمد رفعت من خصال؛ صبرا ورضا وزهدا وقناعة ويقينا ورقة وقوة وصلابة.
محبوه جمهور عريض يمتد من أواخر القرن التاسع عشر وحتى اليوم، يجمع المسلم بالقبطي وحتى اليهودي في مصر التي ولد في أحد الأحياء الشعبية بعاصمتها القاهرة.
سطر الشيخ رفعت في سنيّ حياته الـ68 سيرة عطرة تتجدد دوما وتزداد عبقا بسماع تلاواته التي سُجلت بأدوات بدائية في حينه كما ضاع معظمها ولم تصلنا كاملة.
وضمن سلسلة "أصوات من السماء" يقدم فيلمٌ من إنتاج "الجزيرة الوثائقية" جوانب من حياة الشيخ، وشهادات ممن عاصروه والتقوه وشهادات أحفاده، كما تكشف الحلقة جانبا من أبرز ملامح سيرة الشيخ الراحل.
يقول الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب في حديث له عن ذكرياته مع الشيخ محمد رفعت "كنت صديقا له وتحت قدميه، حيث تحولت علاقتي به من صديق إلى خادم".
ويمضي عبد الوهاب قائلا "كنت أشعر أنه يخاطب الله فعلا، لم تكن تلاوته مجرد قراءة، وكنت أشعر أنه بين يدي الله قبل أن يقرأ الآية، فالإيمان مختلط بصوته وصوته مختلط بالإيمان".
وعن العلاقة بين الاثنين، يروي إبراهيم رفعت حفيد الشيخ أن محمد عبد الوهاب تحدث للشاعر الراحل كمال الشناوي عن صوت الشيخ محمد رفعت فطلب منه الثاني صحبته للاستماع إليه في مسجد "فاضل باشا" بحي السيدة زينب، حيث اعتاد التلاوة هناك كل جمعة.
وقال الشناوي لعبد الوهاب "سآتيك قبل الصلاة بنصف ساعة لنستمع إليه فقال له عبد الوهاب إذا أردت فليكن في السابعة صباحا لأن الناس تتدفق على المسجد مبكرا لتجد لها مكانا حتى تستمع إلى الشيخ".
وغير بعيد عن رأي الراحل عبد الوهاب يقول عازف العود العراقي نصير شمة إن صوت الشيخ محمد رفعت كان قويا لدرجة أنه يستطيع من خلاله الوصول لأكثر من ثلاثة آلاف شخص في الأماكن المفتوحة.
ويتوقف شمة في حديثه عن محمد رفعت عند ظروف نشأة الشيخ والسياق التاريخي في حياته والأشخاص الحاضرين في تلك الحقبة، فيقول "إن نشأة المبدع تلعب دورا كبيرا في حياته"، مشيرا إلى أن الشيخ الراحل كان محاطا بقمم كبيرة في مجال الفكر والأدب والفن وأن مجيئه في هذا التوقيت أكمل تلك الدائرة.
أما عن الإعاقة الحسية التي ابتُلي بها الشيخ محمد رفعت وجعلته يفقد بصره في الثانية من عمره، فيقول نصير شمة "إن الذين حُرموا نعمة البصر يمتلكون مخيلة خرافية"، كما أن البصر في كثير من الأحيان يجعل الصورة مشتتة، ولتجنب هذا التشتيت يغمض البعض عينيه متأملا، وهذا يعني أنك ترى ببصيرتك.
معجبون أقباط ويهود
ومن الرأي الفني إلى حديث آخر عن ملمح آخر في سيرة الشيخ محمد رفعت، يقول الكاتب الصحفي المصري الراحل لويس جريس إن الشيخ عايش أحداثا وطنية مهمة، منها فترة الزعيم مصطفى كامل وواقعة دنشواي وثورة 1919.
وبعيدا عن الحساسيات الدينية لا يتردد لويس جريس في القول "عندما جئت إلى القاهرة وجدت عددا كبيرا من الأقباط يسيرون وراء الشيخ محمد رفعت في كل سرادق يرتل فيه".
ويقول جريس إن الشيخ محمد رفعت بتلاوته "أدى دورا وطنيا مهما جدا أكثر مما فعلته خطب الساسة أو أغاني المطربين، وقرّب القبطي من المسلم أكثر مما فعلته خطب الساسة، فصوته حنون جدا يجعلك إنسانا رقيقا تحب من أمامك".
وعن هذا المعنى أيضا يقول الحفيد إبراهيم رفعت "في زمن الشيخ كانت الكثير من البيوت تقيم ندوة أو جلسة يقرأ فيها الشيخ محمد رفعت، وكان يحضرها الناس من مختلف الأديان مثل الممثل الراحل نجيب الريحاني وهو مسيحي، والمطربة ليلى مراد وهي يهودية (دخلت الإسلام لاحقا)".
استرعت معاني القبول والرقة والحنان انتباه الشيخ الراحل أبو العينين شعيشع الذي يقول إن الشيخ رفعت كان يقرأ وعيناه تفيضان من الدمع بصورة مؤثرة فيمن يستمع إليه، كما يشير شعيشع إلى أن من يشاهد الشيخ رفعت لأول مرة لا يدرك أنه كفيف "فوجهه كان جميلا جدا".
دنيا قاسية ورحيل هادئ
تفسر حفيدته هناء رفعت نبرة الحزن والخشوع في صوت جدها قائلة "إن الدنيا كانت قاسية مع الشيخ محمد رفعت الذي ولد بحي المغربلين بالقاهرة في التاسع من مايو/أيار عام 1882 وهذا هو سر الحزن في صوته".
وتقول الحفيدة إن أول تسجيل أذيع للشيخ محمد رفعت كان في 31 مايو/أيار عام 1934 لدى افتتاح الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية، وإن الذي رشحه للقراءة في الإذاعة هو محمد علي ابن عم الملك فاروق.
وعن مسجد فاضل باشا بحي السيدة زينب الذي اعتاد الشيخ التلاوة فيه تقول حفيدته إنه كان يشهد ازدحاما كبيرا، حتى إن القطار الذي يمر شريطه أمام المسجد كان يضطر إلى التوقف، خصوصا وأن سائق القطار القبطي كان من محبي الشيخ محمد رفعت أيضا.
في عام 1943 أصيبت حنجرة الشيخ محمد رفعت بـ"زغطة" أو "فواق" تقطع عليه تلاوته، فتوقف عن القراءة. وتسبب ذلك في ورم بحنجرته ألزمه الفراش حتى فارق الحياة في التاسع من مايو/أيار عام 1950.