في السنوات الأخيرة، قدمت عدة مؤسسات وطنية ودولية ومنظمات عالمية مثل اليونسكو ومنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو)، جهودا مهمة لحفظ وصيانة المخطوطات، وبذلك عرف المخطوط العربي نهضة جديدة في الشقين العلمي والأثري.
وبرزت المخطوطات كواجهة تراثية، إذ تكمن أبعاد فنية كثيرة في المخطوط العربي، تبدأ بالزخارف، والمنمنمات، والصور وغير ذلك، من مخطوطات تعبق بالتاريخ العربي وبالجمالية التي تمت المحافظة عليها منذ قرون.
يقول ابن منظور صاحب معجم "لسان العرب"، "وخَطَّ الشيءَ يَخُطُّه خَطّا: كتبه بقلم أَو غيره"، فالمخطوط هو الكتاب المخطوط باليد، سواء كان على الورق أو الصحف أو البردي أو الجريد أو الخزف أو الزجاج، غير أن بعض الدارسين يشترطون فترة زمنية ليستحق أن يوصف بالمخطوط، وقد تطور الخط العربي منذ قرون الإسلام الأولى حتى تعددت مدارسه وأنواعه، واستقرت أصوله وقواعده، وصار حلية لتراث المسلمين وآثارهم في مختلف العصور.
كما يتميز المخطوط بقيمة فنية من حيث قدمه وندرته، وآثار الصنعة اليدوية خصوصا منها تلك التي تتضمن لمسات فنية عالية من خطوط جميلة، أو أصباغ وزخارف، أو رسوم وتزيينات، وإلى ذلك أيضا قيمة تاريخية، إذ تمثل المخطوطات أهمية كبيرة في حياة الأمم، باعتبارها تاريخ الأمة وتراثها، ومن هذا المنطلق فإنها تمثل مادة أساسية للدارسين في مجال التاريخ والآثار.
تحديات عصر الرقمنة
لكن في الزمن الرقمي الحديث، الذي تغلغل في شتى جوانب الحياة، يكافح فن الخط العربي العريق للاستمرار في مواجهة التحديات التي فرضتها عليه الوسائط الجديدة، ويجد الخطاطون التقليديون منافسين جددا هم برامج الحواسيب التي تحاول مجاراة فنون وجماليات رسم الحرف العربي.
وبينما تشير الأعمال الفنية في العادة إلى تجربة جمالية معينة يتساءل خبراء عن قيمة الخط كفن، وهل تنبع قيمة العمل الفني من إبداعه، أو من قيمته الاجتماعية وسياقه الثقافي، أم هل لكونه قطعة أثرية نادرة وفريدة من نوعها؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، يناقش الدكتور مصطفى الطوبي أستاذ علم المخطوطات بمعهد المخطوطات العربية في جامعة الدول العربية قيمة المخطوط العربي، قائلاً "تتأرجح قيمة المخطوط في ذاته حسب أقدميته، فإذا كان المخطوط مكتوبا على الرق (ورق معالج من جلد الحيوان)، فإن قيمته تعلو على ذلك المكتوب على الورق، وإذا كان المخطوط مكتوبا على البردي فإن قيمته تعلو على ذلك المصنوع من الرق".
ومن جهة أخرى، يضيف الدكتور الطوبي للجزيرة نت "إذا كان المخطوط مكتوبا بخط مسند، فإن قيمته تعلو على الكوفي، والكوفي يتفوق في قيمته على الأندلسي، والأندلسي يتفوق على الخط المغربي باختلاف أنواع هذا الأخير".
وثمة من يسمي المخطوط في بعض البلدان العربية، بالورقة القلمية، أي مكتوبة بقلم اليد، ويمكن تقسيم قيمة المخطوط العربي إلى شقين، الشق العلمي لأن المخطوط هو وعاء لإرث ثقافي وعلمي دسم، يتداوله المحققون والناقدون لإخراجه من صورته الأثرية إلى صورته المطبوعة، بينما الشق الأثري شاهد على العصر تماما مثل العمران والأحجار والترباء (الأرض)، وهو مصدر حضاري لعلوم أخرى مثل التاريخ، والأنثروبولوجيا، والباليوغرافيا (علم الخطاطة)، وغيرها كثير.
ثقافة العناية بالنص
وأولى الغربيون عناية خاصة، منذ القرن الـ19 لحفظ المخطوطات القديمة بل ومسودات الكتاب والروائيين المحدثين مثل فيكتور هوغو وبلزاك وبروست، الذين كانوا هم أيضا يولونها قيمة خاصة، ويشددون على حفظها ووقفها للمكتبة الوطنية بعد وفاتهم.
وحسب الباحث والأديب سعيد يقطين، أدى هذا الاعتناء، إلى بروز ثقافة تهتم بتكون النص وتطوره قبل الصيغة النهائية، وكان للنقد التكويني دوره في الاهتمام بما قبل النص، أو النص وهو قيد التكون والتطور، ملمحا هنا إلى أهمية المخطوط ولو أنه في صيغته قبل النشر.
ويضيف الباحث يقطين، أن الكتابة العربية استثمرت مختلف الإمكانيات التي يتيحها استعمال الورق ونحوه، وتألقت على مستوى الصناعة الكتابية، لكن الطباعة العربية لم تهتم إلا بالنص، وأغفلت جماليات المخطوط، حيث استبدلت بها الإمكانات التي توفرها الطباعة، وإن لم ترق إلى تحويل تلك الجماليات إلى الكتاب المطبوع.
وبهذا، فرضت الطباعة التعامل مع الكتاب العربي مركزة على الجانب النصي، دون الالتفات إلى البعد الصوري الذي كان يصاحبه المخطوط، يردف الأديب المغربي.
وقد أدى غياب مكتبات الأرشيف الكتابي على الصعيد العربي، في عدم تشكل البعد الفني للمخطوط في ثقافتنا العربية، فقد اندثرت الكثير من المكتبات والخزانات العربية بما احتوته من أرشيف وتاريخ كبير من المخطوطات، إما بسبب الكوارث الطبيعية أو الكوارث التي تسبب فيها الإنسان بنفسه، بحسب يقطين.
المخطوط والتكنولوجيا
يمكن القول، وفق الأكاديمي مصطفى الطوبي، إن "الثورة التكنولوجية لا تمس في شيء أثرية المخطوط العربي، فالمخطوط والتكنولوجيا عنصران متكاملان وليس متناقضين، لأن المخطوط هو شاهد فصيح عن حقب زمنية لم تكن فيها التكنولوجيا حاضرة بل لم يكن فيها حضور للكتاب المطبوع، الأمر الذي يجعل من المخطوط شاهدا تاريخيا بامتياز فهو وعاء حامل للعلم، وهو شاهد بمادته ونسّاخته على مكان وزمان محددين، ولعل الجانب الحفري فيه أضحى موضوعا لعلم المخطوط الذي يستنطقه في كل كيانه المادي، أما التكنولوجيا فهي عنصر مكمل للمخطوط في ذاته".
وبذلك أتاح العصر الرقمي إعادة التفكير في المخطوط، وفي تكون النصوص وتطورها، من لحظة الإنتاج إلى اللحظة التي يأخذ فيها العمل صيغته النهائية، ذلك أن الكتابة باليد، رغم التطور في الطباعة، تمثل شكلا حضاريا لمختلف الأمم، ما يستدعي الحرص الكبير على تقنيات الكتابة سواء باليد أو بالطباعة.
وأبدع مصممون وخطاطون عرب مئات من الخطوط الحديثة والرقمية التي استلهموا فيها قواعد الخطوط العربية الأساسية (الكوفي، النسخ، الثلث، الإجازة، الرقعة، الديواني، المغربي، التعليق).
جماليات المخطوط العربي
يقول الدكتور مصطفى الطوبي إن "المخطوط العربي يحبل بطاقة فنية هائلة، إذ إن خطوطه الكثيرة والمتنوعة المصنوعة بدقة متناهية، وخاصة الخطوط الشرقية مثل الخط المشرقي، والخط الفارسي، وخط التعليق، والخطوط الغارقة في التاريخ من مثل الخط المنابذ، والخط الكوفي، والخط القيرواني، والخط الأندلسي، هي كلها حمولات فنية إذا صحت العبارة لأنها تستجيب لكثير من المعايير الكاليغرافية في الكتابة، ومن جهة أخرى تشهد على حقب تاريخية مهمة بالنسبة للدارس، والاستفادة من الحمولة الفنية تنصب أولا على إذكاء شعلة الفن العربي في مجالات متعددة، وثانيا على تحقيق المحتويات الواردة في هذه المخطوطات".
وإلى ذلك، تكمن أبعاد جمالية وفنية كثيرة للمخطوط العربي، تبدأ بالزخارف، والمنمنمات، والصور على قلتها، والرشوم الظاهرة والناتئة، وغير ذلك كثير.
فحينما نقلب صفحات المخطوط العربي نلاحظ مدى قدرة الوراق العربي على استمالة القارئ بتزيين فاتحة المخطوط، إذ ينفتح المخطوط عادة على لوحة السر، وتعني في المصحف الصفحتين الأولى والثانية مزخرفتين مذهبتين، ثم هناك التذهيب، وهو عنصر أساس في جمالية المخطوط العربي.
وهناك من تفنن في تقديم المادة التراثية متخذا صورا مختلفة، مثل ابن الخطيب (ت: 776هـ/1374م) حيث يبني فصول كتابه "روضة التعريف بالحب الشريف" على شكل شجرة، فالشجرة المحبة مناسبة وتشبيها، والأرض النفوس التي تغرس فيها، والأغصان أقسامه التي تستوفيها، والأوراق حكاياتها وأشعاره أزهارها.