[ جامع دجينغاربير الكبير بمالي ]
كانت مدينة تمبكتو (شمال مالي) في العصور الوسطى مدينة غنية سمحت لها مكتباتها العظيمة بالازدهار كمركز للتعلم، وكانت موطنًا لمراكز المعرفة في العصور الوسطى بما في ذلك دراسة علوم اللغة العربية التي لا تزال تشتهر بها حتى اليوم.
وخلال الفترة التي وقعت فيها أحداث عنف مؤخرا اهتم الإعلام الدولي بإبداء الخوف على تدمير "مخطوطاتها" وفقدانها، وأصبحت "مخطوطات تمبكتو" عبارة شائعة الاستخدام، وبدأ الرأي العام الدولي يدرك أن هناك بالفعل نصوصا عمرها قرون محفوظة في تلك المدينة العريقة والأسطورية وتحتاج لحماية، ولفت ذلك الأنظار لثقافة أفريقية مكتوبة عريقة، خلاف الصورة السائدة عن أفريقيا وثقافتها الشفهية.
وعلى عكس النظرة التقليدية إلى "القارة السوداء"، كانت تمبكتو جزءًا لا يتجزأ من عالم الإسلام الأكبر، ولم تكن الصحراء جدارًا بين عالمين بل فضاء متقاطعا يجري عبوره خلال طرق متعددة تسافر بها جميع أنواع البضائع والسلع، وكذلك الطلاب والعلماء المسلمون والمخطوطات، ذهابًا وإيابًا.
ويناقش عثمان عمر كين، الأكاديمي بكلية اللاهوت جامعة هارفرد وحفيد عالم الدين السنغالي الشهير الشيخ إبراهيم عبد الله (1900-1975)، في كتابه الصادر عن مطبعة هارفرد بعنوان "ما وراء تمبكتو: تاريخ فكري لمسلمي غرب أفريقيا" هذا التاريخ الثري لغرب القارة السمراء.
كان توسع الإسلام في السودان (الممتد تاريخيا من السودان الحالي وحتى غرب أفريقيا) ابتداء من الفترة المرابطية في القرن الـ11 يعني تطوير تقليد التدريس والكتابة في مختلف التخصصات التي تشكلت على مدى قرون في العالم الإسلامي كعلوم إسلامية.
وقد استمر هذا التقليد من خلال تأثير بعض الجماعات العرقية التي أصبحت "رسل الإسلام" مثل الأمازيغ وقبائل صنهاجة، والجولا أو الديولا، والزوايا أو البيظان، والفولاني والولوف وغيرهم.
وسبق للجريدة الرسمية لجامعة هارفرد (Harvard Gazette) أن ناقشت عثمان عمر كين، عن التأثير الثقافي والفلسفي لمسلمي غرب أفريقيا على الإسلام ككل، وجرت المقابلة لإلقاء الضوء على جذور الإسلام وتأثيره في أفريقيا، التي تضم ما يقرب من 30% من مسلمي العالم، وثلثي العرب، بحسب المؤلف.
إحساس أعمق بأفريقيا المسلمة
قال كين في المقابلة إن المفهوم الخاطئ الأكثر شيوعا لدى الغرب عن المسلمين الأفارقة يتعلق بتمثيل أفريقيا السوداء في الأوساط الأكاديمية وكذلك في التمثيلات الشعبية كقارة للقبائل المتحاربة.
وأضاف "انظروا إلى تغطية معظم القنوات التلفزيونية لأفريقيا. فهي تقتصر في معظم الأحيان على النزاعات القبلية".
في المقابل يناقش كين في كتابه حالة أقسام كبيرة من شعوب غرب أفريقيا، في الماضي والحاضر "أثبتت قدرتها على تجاوز الهويات ضيقة الأفق والرؤية والاختلافات حول القضايا المشتركة ونالت بالفعل استقلال الفكر والمصير المشترك".
ويتجسد هذا، أكثر من أي شيء آخر، في تقليد أدبي طويل في اللغة العربية واللغات الأفريقية المكتوبة بالحروف العربية، ولكن، لسوء الحظ، تم حجب هذا التقليد الأدبي من خلال الخطابات الغربية في القرن الماضي والتي كانت تميل إلى تمثيل أفريقيا السوداء أساسا كقارة تعتمد الثقافة الشفهية فقط، ولذلك حجبت هذه الخطابات تقاليدها الأدبية، بحسب المؤلف.
وعن سؤاله كيف انتشر الإسلام من شبه الجزيرة العربية إلى بقية أفريقيا، اعتبر كين أن للإسلام تاريخا طويلا في أفريقيا.
وأضاف أن الإسلام دخل أفريقيا "قبل أن ينتشر في شبه الجزيرة العربية، ناهيك عن الدول المجاورة لشبه الجزيرة العربية؛ إذ أرسل النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) العشرات من أصحابه إلى إثيوبيا قبل بداية التقويم الإسلامي.
وخلال القرن الأول من التقويم الإسلامي (الهجري)، انتشر الإسلام في مصر عبر البحر الأحمر والمناطق الساحلية بشرق أفريقيا من ناحية، ومن مصر عبر الصحراء إلى بقية شمال أفريقيا من ناحية أخرى. ومن شمال أفريقيا تم تقديمه إلى غرب إفريقيا عبر الصحراء.
وبسؤاله عن تمبكتو، وأهميتها في تاريخ الإسلام، اعتبر كين أن المدينة القديمة في مالي اشتهرت بكونها مركزا رائعا للتجارة وتعلم المسلمين من العصر الذهبي للإسلام.
وأضاف "تشتهر بمساجدها وكلياتها العديدة القديمة ومجموعاتها من المخطوطات العربية النادرة. وظلت تجتذب لقرون العلماء والتجار المسلمين، لكنها لم تكن الفريدة من نوعها. كانت واحدة فقط من بين العديد من المراكز العلمية التي ازدهرت في غرب أفريقيا في القرون العديدة الماضية. يوضح كتابي صعود تعليم المسلمين منذ البداية ليس فقط في تمبكتو، ولكن في أجزاء أخرى من غرب أفريقيا أيضا، حتى الوقت الحاضر. كما يفحص السياقات المتغيرة التي أثرت في إنتاج ونشر المعرفة الإسلامية."
مراكز علمية أفريقية
وتحدث كين لجريدة الجامعة العريقة عن الأماكن الأخرى في غرب أفريقيا التي لها نفس أهمية تمبكتو، قائلا إن مراكز أخرى بارزة لتعليم المسلمين في غرب أفريقيا شملت أغاديس (أكبر مدن وسط النيجر)، وشنقيط ولاتة الموريتانية (على حدود مالي)، وجني (مدينة وسط مالي تشتهر بجامعها الكبير وكانت حلقة اتصال بين دول المغرب العربي وجنوب الصحراء الكبرى)، ومدن كاولاك، بير، وكوكي السنغالية العريقة، وكانو وكاتسينا وبورنو بنيجيريا، وغيرها.
ويُقدّر المؤلف عدد المسلمين في أفريقيا ما بين 450 و500 مليون. هذا ما يقرب من ثلث عدد المسلمين في العالم. وتعيش الغالبية العظمى في النصف الشمالي من القارة فوق خط الاستواء.
وفي دول شمال أفريقيا مثل المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر ودول غرب أفريقيا مثل السنغال ومالي وموريتانيا والنيجر، أكثر من 90% من السكان مسلمون، بحسب المؤلف، ولدى نيجيريا فحسب أكثر من 80 مليون مسلم، وهي سادس دولة بها مسلمون في العالم بعد إندونيسيا وباكستان والهند وبنغلاديش ومصر.
وعن مساهمات غرب أفريقيا في تطوير الإسلام، يقول كين إن أثر الأفارقة على العلوم في جميع أنحاء العالم الإسلامي يمتد لأكثر من ألف عام. وتم توثيق ذلك بالكامل من خلال الأبحاث الحديثة حول الثقافات الأدبية في غرب أفريقيا، وخاصة تراث المخطوطات. فمع انتشار محو الأمية العربية، طوّر العلماء الأفارقة تقليدا ثريا للنقاش حول العقيدة والمعنى في الإسلام. ولم يكن ظهور مثل هذا التقليد منفصلا عن مراكز التعلم الإسلامي خارج أفريقيا، بحسب المؤلف.
وفي تمبكتو والقاهرة ومكة وبغداد، لعب العلماء الأفارقة أدوارا مهمة في تطوير كل مجال من مجالات العلوم الإسلامية تقريبا. تظهر نظرة سريعة على كتابات ومناهج مسلمي غرب أفريقيا أنهم يستشهدون بأعمال من العالم الإسلامي بأسره، هذا دليل على أنهم يشاركون في شبكة عالمية للتبادل العلمي.
وعن أهمية تأليف كتاب عن المسلمين في غرب أفريقيا وأفريقيا بشكل عام، قال المؤلف للجريدة الأكاديمية إنه يأمل أن يصحح كتابه المفاهيم الخاطئة في كل من الغرب والشرق الأوسط بأن التراث الإسلامي لغرب أفريقيا يمثل خيطا ثانويا في نسيج الإسلام الأكبر.
وختم حديثه "آمل أيضا أن يدركوا أن المسلمين الأفارقة بشكل عام لم يتم عزلهم أبدا. لم يكن البحر الأحمر ولا الصحراء يوما ما يشكلان حاجزا لا يمكن التغلب عليه أمام الاتصال. على العكس من ذلك، فقد كانت جسورا سمحت للعرب والمسلمين الأفارقة السود بالحفاظ على علاقات وثيقة من خلال التجارة والدبلوماسية والتبادل الفكري والروحي.