[ تعبيرية ]
يبدو الاقتراب من عالم الناشئة محفوفا بالمخاطر، لا سيما ما يتعلق بسبل المخاطبة على قدر العقول والاهتمامات، والسعي للارتقاء بهذه الفئة من دون التنازل عن جماليات الأدب، أو التخلي عن إثارة الرغبة في الحث على التغيير والالتزام بالقيم الإنسانية.
ويحظى الأدب المتوجه للناشئة -أطفالا ويافعين- باهتمام خاص، ويحتاج إلى اشتغال كبير على التفاصيل والمواضيع، بحيث يسهم في بلورة وعي هذه الشريحة التي تشكل جيل المستقبل في المجتمع، ويهيئها لدخول عالم الكبار من بوابة القراءة والتعرف إلى الحياة من أكثر من جانب.
وطرحت الجزيرة نت هذه القضايا على خبراء عرب، وتوجهت إليهم بأسئلة عن إمكانية المنافسة مع أدب الطفل العالمي، وكيفية زرع القيم المجتمعية من دون الإخلال بعنصر المتعة الذي يطلبه الطفل؟
تحديات الكتابة للطفل
عن تحديات الكتابة الموجهة للطفل يقول الكاتب وطبيب الأمراض النفسية اللبناني أنطوان الشرتوني "هناك عدة عوامل تجعل الطفل العربي لا ينجذب للكتاب الموجه له؛ أولها الصورة الخارجية للكتاب. هناك دور نشر لا تهتم بالغلاف أو بالصور الداخلية للكتاب، وبعضها يبدو عدوانيا أكثر من اللازم، مما يجعلها منفرة للطفل، بالإضافة إلى أن المحتوى يعاني أيضا من خلل عدم التوافق، حيث لا يجد الصغير نفسه في النص، الذي قد يكون صعب الفهم".
ومن خلال تجربته بالكتابة للطفل، التي وصلت إلى نشر 450 قصة وحكاية، ومن تخصصه العلمي في الأمراض النفسية والتحليل النفسي الذي درسه في فرنسا، وعمله بالعيادة النفسية واحتكاكه اليومي مع الأطفال الذين يعانون من مشاكل نفسية واجتماعية؛ يلخص الشرتوني ذلك قائلا "إن بعض الكتاب للأسف يختارون قصصا غير مناسبة لعمر الصغار، واحتياجاتهم النفسية، ومتطلبات مراحل نموهم المختلفة، والتي تختلف مع كل عتبة مرحلة جديدة، مما يجعل الأطفال يبحثون عما يناسبهم في مواضع أخرى".
ويكمل "كان هذا سببا لدخولي عالم الكتابة للطفل عام 2013، حيث لاحظت هذا النقص الكبير في المكتبة العربية، وحاولت أن أملأه من خلال معرفتي بعالم الطفل النفسي، ومراحل نموه.
لذلك أعتقد أن الكتابة للطفل لا تبنى فقط على موهبة أو حب، بل تحتاج لدراسة نفسية الصغير، والتركيز في الاختيارات اللغوية من أفعال ومفردات مناسبة لعمر القارئ.
الكاتب الجزائري عبد الله لالي يخلص إلى أن صعوبة مخاطبة الأطفال تكمن في "صعوبة الطبع وقلة الدعم الحكومي أو من الخواص. وهذا الأمر يؤرق المبدعين ويثبط عزائمهم، ويجعلهم في كثير من الحالات ينصرفون عن الإبداع في مجال أدب الطفل، وقد يتوجهون إلى مجالات أخرى، ربما تلقى اهتماما أكبر ورواجا أكثر".
ي حين ترى الكاتبة التونسية سمر سمير المزغني أن الكتابات الأدبية الموجهة للطفل العربي تفتقر إلى الابتكار والواقعية. وتقول "منذ طفولتي وأنا أرى معظم قصص الأطفال ساذجة، مجترة من قصص عالمية، ومملة بعض الشيء، إلى درجة أنه يمكن للطفل القارئ التكهن بأحداث القصة قبل قراءتها. أحس أن ذلك مرتبط بنظرتنا الدونية للطفل العربي كمتلق ومستهلك للأدب لا بوصفه منتجا له وفاعلا فيه".
ويعود ذلك -في رأيها- إلى "المقاربة الأخلاقية والقيمية المتشددة التي تفرض قيودا مجحفة ورقابة ذاتية ومؤسساتية واجتماعية صارمة تقولب الأدب الموجه للطفل وتحصره في المثالية والنهايات السعيدة، في بلدان عربية يحتك فيها أغلب الأطفال برواسب الواقع إلى درجة مؤلمة. وهذه ازدواجية محيرة ومربكة للأطفال تجعلهم سجناء تمثلات وأحكام اجتماعية لا تمت إلى واقعهم بصلة، وبالتالي لا تساعدهم على فهمه ومجابهته وتجاوزه بالمخيلة".
إمكانية منافسة الأجنبي
هل يمكن للعرب منافسة الكتابات المتطورة عند الغير؟ يشترط الكاتب الجزائري عبد الله لالي 4 شروط، وهي: "تشجيع المبدعين أصحاب المواهب الحقيقية، والتكفل بطبع إبداعهم وتوزيعه، ومكافأتهم على جهودهم بشكل مجز، فليسوا أقل قيمة ولا عطاء من لاعبي كرة القدم، بل هم أنفع وأعظم قيمة، كما يجب أن تبرمج إبداعاتهم في الكتب المدرسية، والبرامج التربوية".
كما يجب أن يتوفر الإبداع الموجه للطفل على 4 ميزات أساسية، هي: اللغة والأسلوب الجيد، والمزج بين الواقع والخيال، والقيم والأفكار النبيلة، والتسلية وروح المغامرة".
وشدد على ضرورة أن "يتفرغ الكتاب الموهوبون لهذا الأدب، ويفرغون فيه كل جهودهم وطاقاتهم، وأن يعملوا باحترافية وليس بمزاجية الفرص المتاحة. وأخيرا أن تقام المسابقات الدورية والسنوية لهذا النوع من الأدب، وترصد لذلك المبالغ المالية المعتبرة، والمكافآت ذات القيمة العالية، سواء كانت مادية أو معنوية".
ويؤكد لالي أنه "إذا تحققت هذه الشروط أمكن منافسة الإنتاج الأجنبي في مجال أدب الطفل والتفوق عليه، وبلادنا الشرقية (العربية) تحتوي على المادة الخام لذلك النجاح، سواء من حيث مخزون التراث، وتاريخ الأدب العربي الزاخر، أو المواهب الأدبية الكثيرة والمتعددة".
أما سمر المزغني فتجمل شروط المنافسة في الآتي: "التخلص من احتكارية الأدب؛ فقد حان الوقت لنقرأ أصواتا جديدة لم نتعود عليها في الكتابات العربية الموجهة للطفل، خاصة أصوات الأطفال أنفسهم، ثم التحرر من محدودية المواضيع وتعسف الإسقاط القيمي في قصص الأطفال، ولا بد من التطرق إلى مواضيع وأساليب جديدة في الطرح".
وأخيرا -كما تتابع الكاتبة- "في عالم متصل ومفتوح إلى هذا الحد، يجب على أدب الأطفال أن يصطبغ بصبغة كونية تجعله يشمل قضايا إنسانية عامة، ويكسر الحدود الذهنية أمام أطفال تحد أجسادهم الجغرافيا، بينما تسرح بأذهانهم التكنولوجيا بعيدا".
من جهته، يركز أنطوان الشرتوني على أهمية اللغة وتكوينات الجمل بقوله "المنافسة تبدأ باللغة، كأن نجعل الطفل يستمتع بقراءة اللغة وتكوين جمل. المنافسة قد تكون بإجراء مسابقات للأطفال لتنمية المواهب، ليس لأجل المنافسة فقط بل من أجل التشجيع" أيضا.
ويضيف "لا بد أن يكون الكتاب العربي مسليا، باحتوائه على أسئلة محببة، وعلى صور جميلة باختيار ألوان مميزة، وجمل قصيرة وبسيطة توصل الهدف والرسالة".
تأثير الدعم الحكومي
وعن أهمية الدعم الحكومي وتأثيره لكتاب أدب الطفل، يؤكد الكاتب الجزائري عبد الله لالي أهميته، ويعلل ذلك بالقول "تتوفر الحكومات على الإمكانات الكبيرة واللازمة والدعم اللامحدود للكتاب والأدباء، ويمكنها توفير الطباعة الفاخرة التي تشوّق الطفل للقراءة والإقبال على الكتاب، كما يمكنها إقامة الجوائز الكبرى لذلك وتوفير الرواج الإعلامي المطلوب، ولكن هذا لا يمنع قيمة دعم المؤسسات الخاصة التي تهتم بالثقافة والفكر، وكذلك رجال الأعمال الذين لهم ميول واهتمامات ثقافية وأدبية".
أما الكاتبة التونسية سمر المزغني فينتابها الشك من دعم الحكومات، وتفسر ذلك بالقول "لا أدري إن كان الدعم الحكومي داعما لأدب الأطفال أم معرقلا لتطوره في بلداننا العربية بحصر الأدب في قوالب مألوفة ومقبولة من داعميه".
دمج المتعة بالفائدة
وعن إمكانية دمج الفائدة الفكرية بالمتعة والتسلية ترى سمر المزغني أن هذه الإمكانية يحددها الطفل كقارئ.
ويعتقد الشرتوني أن "تعلم الطفل وتسليته في وقت واحد أمر مطلوب ليس على صعيد القصص فقط، بل على صعيد العلوم والرياضيات واللغات أيضا. ويمكن اعتماد أسئلة من واقع حياته اليومية كي يفهم الطفل سبب دراسته المواد، وكيف يستفيد ويطبق ما تعلمه".
ويضرب مثلا من خلال كتاباته قائلا "لدي قصة عنوانها (العنزة والكنزة) عن عنزة تريد أن تعبر عن امتنانها للراعي بأن تحيك له (كنزة)، ولأنها لا تملك صوفا كافيا، فإنها تناشد حيوانات أخرى المساعدة بأصوافها، وقد اعتمدت على حيوانات غير مألوفة في بيئتنا العربية من أجل أن أعرّف الأطفال عليها، مثل حيوان اللاما بالمكسيك والثور الكبير بالتبت، وغيرهما، كي يعلم الأطفال أن هناك حيوانات بكل العالم تحتوي على أصواف على جلودها. وهكذا يتعلم الطفل ويتسلى".
ويؤمن لالي بأن هذا الدمج شرط "من شروط الموهبة الفذة التي تخاطب في الطفل احتياجاته النفسية، وأشواقه القلبية وتطلعاته المعرفية، وتمزج بين كل ذلك في خلطة سحرية فاتنة تسمى الأسلوب الفني الذي يسحر الطفل ويملك عليه كل جوارحه".
وكل كاتب أو أديب تتوفر فيه هذه الشروط يمكنه تحقيق التوازن بين حاجة الطفل إلى التسلية والمرح واللهو البريء، وبين حاجته إلى المعرفة والقيم النبيلة".