[ مذكرات جو بايدن نُشرت أول مرة بواسطة "ماكميلان للنشر" في نهاية 2017، وترجمت حديثا للعربية (الجزيرة) ]
من المتعارف عليه غالبا لدى الساسة الأميركيين مزج حياتهم الخاصة بحياتهم العملية، وهذا ما نراه في مذكرات الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن التي تميزت بجانب إنساني صعب ومؤلم، في تناقض كبير مع أسلوب الرئيس السابق دونالد ترامب الواثق الذي يصور نفسه عادة على أنه الرجل القوي الذي لا يقهر.
بايدن أثناء حملته الانتخابية الأخيرة، تطرق بإسهاب إلى تلك المرحلة التي وصفها بأنها كانت بالغة الصعوبة والتعقيد.
وفي كتابه "عدني يا أبي.. عام من الأمل والمعاناة والهدف" الذي صدرت نسخته العربية حديثا عن الدار العربية للعلوم بترجمة الدكتورة عائشة يكن، يروي الرئيس الأميركي جو بايدن في مذكراته تفاصيل السنة التي تلت الوعد الذي قطعه لابنه "بو" المريض بالسرطان، والتي من شأنها أن تكون الأكثر أهمية وتحديا في حياة بايدن ومهنته الاستثنائية.
وبصفته نائبا للرئيس في عهد باراك أوباما، عالج بايدن في كتابه الكثير من القضايا والأزمات على مستوى العالم، من العراق إلى أوكرانيا مرورا بأميركا الوسطى ووصولا إلى الشرق الأوسط وكثير من القضايا الداخلية في الولايات المتحدة. ويتكلم بايدن عن التعامل مع الحزن الناتج عن رحيل الأحبة عن عالمنا، ولا سيما بعض أفراد أسرته الذين قضوا في حادث سير.
العزاء
يتكلم بايدن في مذكراته المؤثرة جدا عن السنة التي من شأنها أن تغير إلى الأبد كلا من الأسرة والبلاد.
ويقول لقد منحتني حياتي المهنية في واشنطن شعورا بالفخر والإنجاز منذ وصولي إليها، ولم يتلاش هذا الشعور بعد ما يقرب من 42 عاما، "بالرغم من اعترافي بأن منصبي الحالي كان وظيفة غريبة حقا"، مؤكدا أن هناك مرونة غير عادية وفريدة في مسؤوليات نائب الرئيس.
ويضيف "الحقيقة أنه في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2014 كنت متحمسا ومحفزا لعملي، كما كنت في أي وقت في حياتي المهنية"، لكن هذا العام كان مختلفا بالنسبة لبايدن، فقد جرى تشخيص مرض ابنه الأكبر "بو" بورم خبيث في المخ، وكانت نجاته منه غير مؤكدة.
بو -الذي كان محاميا بارعا- توفي عام 2015. يذكر جو بايدن ذلك قائلا "سجّلت في مذكراتي: 30 مايو/أيار الساعة 7:51 مساء. لقد حصل الأمر. يا إلهي. يا ولدي، ولدي الجميل". ويضيف: "حذرني بو إحدى المرات، عندما ضبطني وأنا أنظر إليه: أبي، لا تنظر إلي بحزن. لقد كان حازما: أبي. أبي! هل تفهمني؟ لا تنظر إلي هكذا".
وأضاف أن ابنه بو كان قد تطوع -بصفته مدنيا يعمل في مكتب المدعي العام للولايات المتحدة- للذهاب إلى منطقة الحرب في كوسوفو، لمساعدة تلك الجمهورية الناشئة على تطوير نظامها القانوني ومحاكمها، وأضاف ذهب بو مع وحدته العسكرية عندما تم نشرها ضمن القوات الأميركية العاملة في العراق.
الثقة
وعلى فراش موته، طلب الابن من أبيه أن يترشح للرئاسة الأميركية، ومن هنا استلهم عنوان الكتاب. قال بو لوالده: عدني يا أبي. أعطني وعدا أنك ستكون بخير، بغض النظر عما يحدث. أعطاه جو بايدن وعده، وفي الكتاب يدوّن بايدن الذكريات المؤلمة لفقد ابنه الأكبر "بو"، وما ألحقه به وبأسرته.
وكان بايدن عاش أجواء من الحزن تمثلت في فقدان زوجته الأولى وابنته نعومي في حادث سيارة مروع عام 1972، وكان ذلك بعد أسابيع من فوزه بانتخابات مجلس الشيوخ عن ولاية ديلاوير.
يقول معلقا على تلك الحادثة المفصلية في حياته العائلية "اكتشفت على مرّ السنين أن وجودي يجلب دائما بعض العزاء لمن يعانون من خسارة مفاجئة وغير متوقعة.. لقد كنت عضوا في مجلس الشيوخ الأميركي المنتخب حديثا وعمري 30 عاما، متحمسا لوجودي في واشنطن لإجراء مقابلات مع الموظفين.. تلقيت مكالمة هاتفية بأن زوجتي وابنتي البالغة من العمر 18 شهرا، توفيتا في حادث سيارة أثناء خروجهما للتسوق قبل أسبوع من عيد الميلاد".
بينما أصيب نجلاه "بو" الذي كان يبلغ 4 سنوات، وهانتر ابن العامين آنذاك، بجروح خطيرة في الحادث نفسه.
ليكن لديك هدف
يقول بايدن "من الأشياء التي تأقلمت معها بشكل خاص على مرّ السنين، هي كم من الأشخاص يعانون بهدوء ودون شكوى من الألم النفسي والعاطفي في كل الأوقات".
كان جو بايدن على الدوام يوازن بين مسؤولياته تجاه بلاده والتزاماته العائلية، بحسب كتابه. وضمن هذا الإطار كان يراوده على الدوام السؤال الملح والعاجل بشأن ما إذا كان عليه أن يترشح للرئاسة عام 2016، حيث حملت له تلك السنة انتصارا حقيقيا وإنجازا وألما عميقا، ولكن حتى في أسوأ الأوقات، بدا بايدن قادرا على الاعتماد على روابطه المتينة مع عائلته، وعلى إيمانه، وعلى صداقته العميقة مع باراك أوباما في البيت الأبيض.
ويتحدث بايدن عن التداعيات السياسية التي خلّفتها وفاة ابنه، حيث كان قراره عدم الترشح للرئاسة عام 2016 في جزء كبير منه، بسبب الحزن الذي كان لا يزال يخيم على حياته.
نائب الرئيس
يقول بايدن عن اختياره ليكون نائبا للرئيس أوباما: "لقد تصارعت لمدة يوم أو يومين مع فكرة أن أخدم في الواقع نائبا لأي رئيس"، ويؤكد "أكثر ما كان يقلقني هو أنني سأفعل شيئا لم أفعله منذ 40 عاما: العمل لدى شخص آخر".
وأضاف "اتصل بي باراك أوباما أول مرة لأكون نائبا له في انتخابات يونيو/حزيران 2008″، ويذكر بايدن قلت له "سأساعدك بأي طريقة ممكنة، لكنني لا أريد أن أصبح نائبا للرئيس"، ويؤكد "لقد اكتسبت الكثير من الاحترام بصفتي مشرّعا رائعا وكانت لي أقدمية، كنت رجلا حرا، وكنت أستمتع بما أفعله".
ويوضح بايدن بأنه كان مقتنعا بأن أوباما كان رجلا صادقا وشريفا من الداخل، ويحافظ على كلمته. وأضاف "كنت مقتنعا أيضا أن بإمكانه أن يكون بالفعل رئيسا جيدا.. لقد سلمني الرئيس الكثير من الوظائف المحددة منذ البداية، ولم يراقبني.. لم يكن أوباما يريد أن يرى جمهوريا في البيت الأبيض".
ويذكر جو بايدن "لقد أمضينا معا أنا وأوباما الكثير من الوقت، حتى أننا طوّرنا إشارات خفية ودعابات خاصة لتخفيف ضغوط المكتب"، وأضاف "كان باراك أحيانا يصرخ بصوت عال: لماذا يفعل السيناتور (س) هذا؟ ولماذا يفعل عضو الكونغرس (ص) ذلك؟ لقد كان ذلك بلا مبرر، أو لا لزوم له، أو غير مهذب إطلاقا. لماذا؟"، يقول بايدن "أخبرته عن عمي إد فينيجان الذي كان يمتلك إجابة لهذا النوع من المواقف، لم تكن محددة تماما ولكنها مرضية دائما".
وأضاف بايدن، كان العم إد يقول: "أتعلم يا جوي، ليس هناك اعتبار للحمير". ويقول أصبحت جملة العم إد جزءا أساسيا من الرموز بيننا، أصبحت نكتة خاصة. ويوضّح بايدن: في إحدى المرات، زار رئيس دولة أجنبية البيت الأبيض، وكان أول شيء نطق به تقريبا عندما دخل المكتب البيضاوي: "يقولون إنني قوي، باراك، وأنت ضعيف. أقول لهم: لا، لا. أنت قوي أيضا". يقول بايدن: تبادلنا النظرات فحسب، والتفت الرئيس إلي، كما هو الحال دائما، ورفع حاجبه، وقال: "العم إد".
وحول رمزية منصب نائب الرئيس، يقول بايدن: لقد كنت في واشنطن لمدة كافية لمشاهدة 8 نواب رئيس مختلفين، وعرفت التاريخ. وأضاف أن المنصب نفسه له تاريخ طويل وأسطوري بصفته أضحوكة.
ويشرح بايدن اقترح بنجامين فرانكلين (1706-1790) أن يشار إلى نائب الرئيس باسم "صاحب السعادة الزائد"، ويستشهد بقول نائب الرئيس وودرو ولسون، السياسي الأميركي توماس رايلي مارشال (1854-1925)، الذي قال ذات مرة: إن نائب الرئيس هو رجل في نوبة صرع. لا يستطيع الكلام، لا يستطيع الحركة، لا يعاني من ألم، مدرك تماما لكل ما يجري حوله، لكن ليس له دور فيه. ويرد في الكتاب قول لنيلسون روكفلر (1908-1979) نائب الرئيس جيرالد فورد: أنا أحضر الجنازات. وأذهب إلى أماكن الزلازل (ص 67).
التركة الثقيلة
يقول بايدن معلقا على الإرث الثقيل الذي تركه جورج دبليو بوش: ورث الرئيس باراك أوباما الحروب الساخنة في العراق وأفغانستان، ولم تكن هناك إستراتيجية واضحة للنصر في أي منها. وبيّن جو بايدن أننا فقدنا في حرب العراق 4489 أميركيا، ويؤكد: أنفقنا أكثر من تريليون دولار، مع القليل جدا من المكاسب لإظهارها مقابل كل هذه الخسائر (ص 147).
ويتابع كانت الحروب تكلفنا ما يقرب من 15 مليار دولار شهريا، في وقت لم يكن بوسعنا تحملها فيه. ويقول: كان أوباما دائما حذرا من ارتكاب الخطأ التاريخي المتمثل بالسماح لنار المشاحنات الصغيرة أن تستعر دون قصد حتى تصبح حرائق مرعبة خارج سيطرة أحد (ص 104).
يذكر جو بايدن أن أوباما طرح موضوع ترشح جو بايدن للانتخابات الرئاسية وهما على الغداء، قائلا: لو كان بإمكاني تعيين أي شخص ليكون رئيسا للسنوات الثماني المقبلة، فستكون أنت، جو… وأضاف أوباما: لدينا القيم نفسها، الأهداف نفسها، لديك الحق في اتخاذ قرار بناء على ما تشعر به حيال السباق الرئاسي (ص 83).
أن أبقى منشغلا
وبشأن قضايا السياسة الخارجية، يؤكد بايدن أن الغزو الأميركي للعراق عام 2003 قلب النظام العراقي، وحرم السنة من حقوقهم، ومكّن الشيعة، وأعاد إحياء حلم الأكراد بالاستقلال (ص 138).
وعن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، يقول: لم تفاجئ قوة داعش في العراق الولايات المتحدة فحسب، بل أذهلت التحالف بأكمله على حين غرة عندما سيطرت على مدينة الموصل صيف عام 2014.
وبالنسبة للاتفاق النووي مع إيران الذي تم التوقيع عليه في 14 يوليو/تموز 2015، يوضح بايدن: كنت قد أجريت مكالمة هاتفية مع عضو في الكونغرس من منطقة شمال نيويورك، لمعرفة ما إذا كان بإمكانه تخفيف معارضته للاتفاق النووي الذي كان وزير الخارجية جون كيري يتفاوض بشأنه مع إيران، وأضاف ثم اتصلت بالسيناتور توم كاربر من ولايتي، للتواصل معه بشأن صفقة إيران (ص 91).
ويقول الرئيس الأميركي بايدن أريد أن أقضي بقية حياتي مع عائلتي، والمساعدة في تغيير البلاد والعالم نحو الأفضل (ص 254).
هذا الكتاب لم يكتبه الرئيس فحسب، بل كتبه جو بايدن الأب والجد والصديق والزوج. "عدني يا أبي"، كتاب يحكي كيف تدعمنا الأسرة والصداقات، وكيف يرشدنا الأمل، والهدف، والعمل، خلال مرحلة الألم، من الخسارة الشخصية إلى ضوء مستقبل جديد.
يربط جو بايدن في مذكراته بين قصته الأسرية الموجعة، وقصته الانتخابية، وقصته في الشؤون الخارجية، وبهذا يقدم شيئا للجميع، بغض النظر عن الجوانب التي يراها القراء تستحق الاهتمام والمتابعة.