في جزيرة نائية بعيدة من البر الأسكتلندي يعيش اللاجئ السوري عمر في انتظار قرار منحه حق اللجوء، وفي ذلك المكان الموحش والمعزول يتشارك معه عدد من المهاجرين، فهم مثله ينتظرون قرارا يحسم أمر وجودهم، ويضع حدا لحالة القلق وعدم الاستقرار التي يعيشونها.
من عالم عمر الخاص يدخل فيلم "التيه" (Limbo) إلى عوالم شخصيات أخرى، ومن خلاله يعرض إحساسهم العام بأنهم قابعون في متاهة لا نهاية لها.
بالذهاب إلى دواخل السوري وكشف حالة الإحباط التي يعيشها يتميز فيلم المخرج البريطاني "بن شاروك" عن الكثير من الأفلام التي تناولت رحلات السوريين الهاربين من الحرب والظلم في بلدهم إلى المنافي البعيدة، فأغلبيتها ركزت على تفاصيل عيشهم وعلاقاتهم بالمجتمعات الجديدة، من دون البحث في دواخلهم، فقد اكتفت بالظاهر دون الباطن، أما في "التيه" فنرى ذلك مُجسّدا ببراعة في عنوانه أولا، ومن ثم في اهتمامه بعرض حالة الشاب النفسية أثناء وجوده على جزيرة تبعد أكثر من عشرين كيلومترا عن البر الأسكتلندي، وآلاف الكيلومترات عن بلده الذي اضطر لتركه.
بيت كئيب على الجزيرة.. رفقة المكان الموحش
في بيت كئيب شُيّد مع بقية قليلة على أرض الجزيرة كان يعيش الشاب السوري عمر (الممثل المصري الأصل المقيم في بريطانيا، أمير المصري) مع لاجئين مثله، وكان من أكثرهم قربا إليه الأفغاني "فرهاد" (الممثل فيكاش بيهاي)، والأخوان الأفريقيان عبيدي (كوابينا أنساه) وواصف (الممثل أولى أوربيي) الذي يضفي على الفيلم روحا مرحة نتيجة لسلوكه وخفة روحه.
لا يتحدث السوري كثيرا عن ظروف الحرب في بلده، بقدر حديثه عن الموسيقى وإعجابه بالمغني العالمي "فريدي ميركوري"، أما الأخوان فنراهم طيلة الوقت يتشاجران ويختلفان حول حقيقة وجود فرص للعيش والعمل في البلد الذي وصلا إليه بعد رحلة بحرية بقارب مهترئ، لدرجة أن أحدهم كاد أن يموت غرقا فيها، فالناجي من الموت يحب لعبة كرة القدم، ويحلم أن يلعب يوما في نادي "تشيلسي" اللندني.
التلفون العمومي الوحيد في الجزيرة الأسكتلندية النائية، والذي يستخدمه اللاجئون هناك للتواصل مع أهاليهم في الخارج
قمرة الهاتف العمومي.. موعد اللقاء الجماعي بالعائلات
في الخارج يجتمع هؤلاء اللاجئون حول هاتف عمومي وضع داخل قمرة زجاجية على قارعة الطريق الوحيد في القرية، فبسبب سوء استقبال أجهزة الهواتف المحمولة في الجزيرة يضطرون للاستعانة به للتواصل مع عوائلهم.
كل مساء نراهم يجتمعون حوله، يتصلون بأهاليهم ويتبادلون معهم الأخبار كما كان يفعل عمر، ومن خلال الهاتف يتعرف الجمهور على عائلته وظروف عيشها وطبيعة علاقته بها.
على جرعات متفاوتة يقدم سيناريو الفيلم صورة عن العائلة الموزعة بين سوريا وتركيا، فوالدته تشكو له سوء حالتهم الاقتصادية في تركيا، وبخجل تطلب مساعدة مالية منه، بينما الشاب يعتذر لعدم توفر مصدر مالي لديه في الجزيرة، وأما الأب فيُلحّ عليه بمواصلة العزف على آلة العود، وذلك لأن "العازف المتوقف عن العزف هو إنسان ميت" كما يظل يردد على مسمع ولده.
اللاجئ السوري عمر رفقة الأفغاني فرهاد وعبيدي وواصف من أفريقيا، وجميعهم جمعتهم الجزيرة الأسكتلندية
عازف العود.. أمجاد الماضي وإحباط الحاضر
من خلال تسجيلات فيديو هاتفه المحمول يظهر عمر عازفا معروفا في بلده ولديه الكثير من المعجبين، لكنه بعد أن غادر سوريا توقف تماما عن العزف. وطيلة زمن الفيلم نراه ممسكا بعوده المغلف بغطاء جلدي يأخذه معه أينما ذهب، رغم عزوفه عن استخدامه.
رفضه العزف يعكس إحباطا يتغلغل داخله، ويحرمه من متعة استعادة ذلك الإحساس القديم الجميل الذي كان ينتابه لحظة تقديمه وصلات موسيقية أمام جمهور يقدره ويتفاعل معه. الوجوه التي تظهر في الحفلات يعرف الكثير منها، فهو يتأمل وجودها مرات ومرات، ويتذكر من خلالها أيامه الجميلة التي كان يعيشها في بلده قبل أن يغادره هربا من الحرب.
مجموعة من المهاجرين المقيمين في الجزيرة الأسكتلندية النائية ينتظرون بفارغ الصبر الرد على طلبات لجوئهم
ترويض اللاجئ.. ترف يدعو إلى السخرية المرة
حالة الغريب ووضعه النفسي بعيدان تماما عن اهتمام المؤسسات الرسمية الأسكتلندية ودوائر هجرتها، فشاغلها الأكبر هو كيف لها أن تروّض اللاجئ وتفصّله على مواصفاتها الخاصة، حتى قبل حسم أمر بقائه في البلد من عدمه، مما يثير سخرية تجسدها مشاهد تعليم وتلقين المهاجر أصول التعامل الأخلاقي وضوابط العلاقة بين الرجل والمرأة.
تبدو الدروس التي يقدمها موظفان لطالبي اللجوء نوعا من الترف يدعو إلى الضحك بمرارة، فهؤلاء الشباب يعيشون في عزلة تامة، إذ لا يلتقون بأبناء البلد ولا صلات لهم بأي كائن غريب عن المكان.
يلتقط الفيلم الروائي الرائع المُدرَج ضمن خيارات مهرجان "كان" السينمائي الأخير والحائز على العديد من الجوائز المرموقة، ذلك الواقع من خلال نظرات ساعي بريد يتفاجىء بوجود كائنات غريبة على سطح الجزيرة، ومن خلال مشهد نادر يظهر فيه شباب مراهقين من أبناء الجزيرة يسخرون من وجود الغريب ومن لغته وشكله.
يد الشاب الأفغاني مدودة أمام وجه عمر في لحظة مزاح جمعتهما على الجزيرة النائية
وهم الجنة الموعودة.. بطالة إجبارية في بلاد مُقفرة
على جانب آخر يُظهِر نص السيناريو المكثف التعبير التعامل الأخلاقي المزدوج لبعض سكان الجزيرة، من خلال حضور دوريات الشرطة إلى معمل لتعليب الأسماك، يشغلهم صاحبه بشكل غير قانوني مقابل أجور زهيدة.
عمل يعرضهم للتسفير، ويدمر كل ما بذلوه من أجل الوصول إلى "الجنة الأرضية الموعودة" التي يكتشفون أن لا وجود لها في هذا المكان المُقفِر.
لمزيد من تبريز وحشة المكان وغرائبيته، يؤثث الفيلم متجرا عجيبا رفوفه خاوية لا بضاعة فيها سوى معلبات قليلة ومواد مجمدة، يفترض أنها خاصة بالغرباء وتتوافق مع ذائقتهم، غير أن المفارقة المثارة هنا تكمن في عجزهم عن الوصول إليها، لأنهم ببساطة من دون عمل.
البطالة مفروضة عليهم وفق قوانين تُحرِم عليهم العمل قبل الحصول على حق الإقامة في البلد، ولهذا فهم يُكيّفون عيشهم على مساعدات حكومية قليلة لا تكاد تكفي لضمان بقائهم على قيد الحياة، وذلك في معسكر الانتظار الذي لا يُسمع فيه سوى صوت الريح الذي يزيد إحساس المهاجر أكثر بغربته وحزنه.
نبيل المقاتل.. شجاعة مقارعة النظام في سوريا
ليس الشعور بالغربة والوحدة محصورا على ساكني الجزيرة، بل يتعداهم إلى أولئك الذين هربوا إلى تركيا بحثا عن أمان.
عبر المكالمات الهاتفية بين عمر ووالديه ينقل الفيلم المشهد السوري بأبعاده المؤلمة، فكل ما يفهمه المشاهد من إلحاح والدته عليه بالتواصل مع أخيه نبيل (الممثل قيس ناشف) هو أنهما ليسا على وفاق. فنبيل ظل في سوريا معارضا وانضم إلى حركات مسلحة، ورفض الخروج من البلد وفضّل عليه البقاء لمقارعة النظام.
هذا الموقف ينسحب سلبا على عمر، ويُشعره بالعجز لأنه ترك البلد، وفضّل عليه سلامه الشخصي، وتكشف الحوارات عن إحساسه بالذنب، وكلام والده المعاتب يُحيل إلى مقارنة بين شجاعة الأخ الأكبر وأنانية الأصغر.
"لدينا سقف يحمينا".. رغبة العودة رغم المخاطر
يجسّد النص المتعدد المستويات بشكل لافت المصاعب التي تحيط بالسوري في منفاه، وذلك حين يعلن الأب عن رغبته بالعودة إلى سوريا رغم كل المخاطر، فهناك على الأقل -كما يعبر بحرقة- "لدينا سقف يحمينا".
يُجبر إلحاح الأم الأخ الأصغر عمر على التواصل مع أخيه نبيل بالخيال في كوخ مهجور يصل إليه وهو يكاد يموت من شدة البرد، حيث يتخيل أن أخاه نبيل موجود فيه، فيتصالحان ويتذكران طفولتهما وحلاوة عيشهما، قبل أن تنغص عليهما الحرب التي باتت تهدد باحتمال موت أخيه في كل لحظة.
مخرج فيلم "التيه" البريطاني "بن شاروك" الذي تميز بتطرقه لدواخل السوري وكشف حالة الإحباط التي يعيشها
نهاية المتاهة.. ضوء في آخر النفق
تمنح عمر الزيارة المتخيلة لأخيه روحه بصيص أمل، وتزيح عتمة غلفتها طويلا، وزاد من شدتها موت صديقه عاشق كرة القدم في العراء متجمدا، وذلك بسبب هروبه من رجال الشرطة المكلفين بتسفيره إلى موطنه، مما سَوّد الحياة في عينيه وزاد من إحساسه بالخسارة والعدمية، حيث كان يرى فيه مثالا على قوة المواصلة والتشبث بالحياة رغم كل الصعاب. وبدفنه يودع إنسانا غريبا مثله ربطته به روابط إنسانية، ولم يُخفف عنه الحزن على فقدانه سوى زيارة الأخ المتخيلة، وحصول الأفغاني على حق الإقامة.
بتلك التفاصيل والحوادث الصغيرة يمهّد فيلم "التيه" لتخفيف متاهة عاشها السوري وآخرون مثله، ولا بد من نهاية لها. وتبدأ بتجاوزه عقدة التوقف عن العزف على آلة العود، وشروعه بتقديم مقطوعة مختارة بعناية أمام عدد قليل من الحضور، ليستذكر من خلالها زمنا جميلا، ويستعيد بها إحساسا رائعا غاب عنه منذ أن ترك بلده نحو المجهول.
كل تلك المشاعر المضطربة التي تخالج دواخل عمر جسّدها الممثل المصري الموهوب أمير المصري على الشاشة بدقة متناهية، واستحق عليها جائزة أفضل ممثل في أكثر من مهرجان سينمائي عالمي.