[ من أشغال تهيئة التمثال (العربي الجديد) ]
في ظاهره، ليس الأمر أكثر من خطأ إملائي. لكن جناية بلدية تونس العاصمة (وتونس عموماً) أكبر وأفدح على عبد الرحمن بن خلدون. لقد كان تمثاله آمناً يمر به الناس يومياً، لعلّهم لا ينتبهون إليه، فإذا به قد تحوّل إلى بؤرة استهزاء يتداول الناس صوره في وسائل التواصل، يتندّرون بما كُتب على القاعدة الرخامية للتمثال، نقرأ ولا نكاد نصدّق: "إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار ولاكن (نعم بهذا الرسم!) في باطنه نظر وتحقيق". هكذا مكتوبة أسود على أبيض في الحجارة، وبخط بائس، بارد، باهت...
ومن تحت العبارة الخلدونية المشوّهة، نقرأ أيضاً عبارات ملقاة بشكل عشوائي على الرخام، وكأن من اختار تلك المقولات تلميذ طُلب منه أن يأتي بشيء عن ابن خلدون فالتقط ما صادفه من الإنترنت ووضعه على الحجارة... دون حساب لمقام "العلّامة"، ودون تجشّم عناء المراجعة، ودون اجتهاد في جمالية الخط، أو دون رهبة من الكتابة على الرخام. فكثيراً ما نسمع عن رهبة الكتابة على الورق. فما بالنا بالكتابة في الحجارة..
وقبل كل شيء حدث ذلك دون اعتبار لحق العربية علينا، والمفارقة أن العبارة الثانية المقذوفة في الحجر، تقول: "إن غلبة اللغة بغلبة أهلها، وأن منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم".
■ ■ ■
ليس هذا أوّل حظ عاثر لابن خلدون في تونس، وهو من مواليدها عام 1332 م، فقد تيتّم فيها صغيراً حين ذهب الطاعون بأبيه وأمّه. فتغرّب الفتى في مسقط رأسه، ولعله وجد في المعرفة بعض عزاء، إلى أن اشتدّ عوده فغادر تونس في العشرين من عمره، ولا شيء ينبأ بأنه كان عَلماً في بلاده الأولى، حتى بعد أن نال مكانته العلمية في فاس وغرناطة، فحين عاد تعرّض للتهميش حتى أنه يَذكر اعتزاله الناس وقضاء وقته في بيته قارئاً أو كاتباً، وحين غادر تونس مجدّداً كان كمن يطلب الرحيل عنها إلى الأبد، فقد اختنق من أجواء الدسائس التي تزكم الأنوف أكثر من رائحة الجثث زمن الطاعون.
ها نحن اليوم نتذكّر ابن خلدون بسبب خطأ إملائي. هذا حال العلّامة مع تونس بين زمنين وبين وباءين.
■ ■ ■
لو عدنا إلى تمثال ابن خلدون في وسط العاصمة. هل كان هذا النصب احتفاء يليق به؟ يعتقد الرسميّون ذلك، لقد جسّدوا أحد رموز "الهوية التونسية" في كتلة من البرونز. لكن لو تمعّنا في التمثال لوجدناه كئيباً غريباً، وها هو يتوسّط "مقر المقيم العام" (السفارة الفرنسية اليوم) و"كاتدرائية لويس التاسع"، وهذا الأخير قضى على سواحل تونس حين أتاها غازياً قبل ميلاد ابن خلدون بعقود قليلة.
تمثال صاحب "المقدّمة" قليل الحظ من الروح، لم تصل إليه حرارة الحياة التي يبثّها الفنانون في الحجر. لم يكن سوى عمل تحت طلب، تحت طلب الدولة تحديداً، نهاية السبعينيات، لأمر في نفسها. يقال أن الفنان زبير التركي قد نحت على صورته وجه ابن خلدون. لعلّ ذلك أطرف ما في أمر التمثال، أما البقية فوجوم وعبوس يشير إلى زائر تونس بأفظع ما في البلاد. فكأن هذا التمثال يفسّر سراً من أسرار الشهادة التاريخية القاسية التي قالها ابن خلدون عن بلده: "إذا دخلت أفريقية فوافق أو نافق أو غادر البلاد". كان يقول ذلك وفي ذهنه أناس من قبيل الرسميين الذين نصبوا تمثاله أو من يسهرون اليوم على إعادة تهيأته.
■ ■ ■
لكن ما سر هذه العناية بابن خلدون؟ فوضع تمثال هو تكريم في حدّ ذاته، تكريم لم يحظ به كثيرون غيره في تاريخ البلاد بجهدهم الفكري. وإلى جانب التمثال كثيراً ما نسمع عن مشروع تحويل بيته في المدينة العتيقة إلى متحف، ليكون مزاراً يأتيه السياح من العالم كي يروا المكان الذي ولد فيه "أب علم الاجتماع". لكن البيت اليوم مجرّد مقر لمصلحة إدارية تخزّن فيه أرشيفها، فيما تبقى الوعود بالعناية بالبيت وتثمينه بضاعة موسمية رائجة. للإشارة، عَرف قبر ابن خلدون في القاهرة ما هو أنكى، حيث جرى التفطّن منذ قرابة عشرين عاماً إلى أن ضريحه قد ضاع بسبب أشغال توسعة الطريق أمام "باب النصر".
هل يختلف من يجعل بيت ابن خلدون مخزناً للأوراق عمّن يشوّه تمثاله. ها إن صاحب "المقدّمة" يعرّي لنا من وراء القرون حقيقة العقول الصغيرة التي تدير الرأسمال الرمزي للمدينة. هؤلاء لا يهمّهم من شأن العلّامة إلا أن يعلّقوه وساماً. باختصار، ابن خلدون حمار قصير يمتطيه مسؤولون صغار.