على الرغم من أنها الرواية الأولى لها، فإن الروائية والمترجمة التونسية المقيمة في فرنسا، فتحية دبش، فاجأت الجميع، حين أعلن فوز روايتها "ميلانين" الصادرة في 2019، بجائزة كتارا للرواية العربية، فئة الروايات المنشورة، في دورتها السادسة (2020).
في 166 صفحة من القطع الوسط، تقع رواية "ميلانين"، وهي ضمن منشورات "دار العرب للنشر والتوزيع"- بورسعيد (مصر)، وصدرت أيضا في طبعة ثانية هذا العام 2020. إلا أن قارئ "ميلانين" يجد نفسه أمام نص متقن ومقتصد في الآن نفسه، نص ممهور بلغة شاعرية ومؤثث بسردية انسابت بخفة طائر في رحلته إلى العوالم الدافقة بأسئلة الوجود والذات.
تسرد "ميلانين" يوميات صحفية تونسية سوداء، وجدت نفسها خارج بلدها (تونس) في تماسّ مع برد باريس وليلها المخملي محمولة بقلق مبعثه أسئلة الحيرة والتشظي والبحث عن الذات.
في برد فرنسا
"يسكنني هاجس ضجِر وأنا أغادر مطار باريس- شارل ديغول.
أقتلعني من حرارة تونس لأنغرس بعض وقت في برد فرنسا وشوارعها المصقولة بفعل المطر". تمامًا إنه هاجس الذهاب إلى عوالم وأضواء وهتافات ومغامرات، التمع بدايةً من لحظة ركوب سيارة أجرة، خارجةً من مطار محتشد بمرتاديه إلى ليل مدينة ساطع ومربك.
غير أن بطلة الرواية "أنيسة عزوز" تستهل رحلة قلقها الـ"متعدد"، بتدوينة أولى: قلق كان يسكنني طوال الرحلة، وقبلها، يتضخم في أثنائها ويتضاءل، هو قلق المسافات والانتظار، قلق الاستجوابات والأسئلة، قلق الخوف من المجهول والإقدام عليه، وقلق الوصول أخيرًا إلى محطة لن تفضي إلا إلى محطة أخرى.
"لعله مكتوب في ذاكرة جيناتنا أن السفر قدر نحمله فينا ويحملنا"، تستدرك أنيسة، مبررة حالة القلق وغموض ما وراء أسوار مطار (باريس- شارل ديغول)، حاملة قلقها
وكاتبةً أسئلته منذ الصفحة (الأمسية) الأولى.
التمرد على "الهوية"
ثمة ما يجعل من "ميلانين" رواية الهوية والتمرد عليها، فهي في متنها السردي روايتان تقع الواحدة من الأخرى موقع المرايا مضيئة زواياها المعتمة، بل وتتماسّ معها تماسّ المعول الذي يحفر بحثا عن معنى.
تقاسي أنيسة عزوز التهميش، فتظل رغم قدراتها العلمية ومكاسبها الإنسانية، مختزلة في لونها الأسود، فلا يراها الآخرون الطالبة ولا الصحفية الناجحة بل يرونها دائما (أنيسة السوداء). بينما في ما يمكن أن نعتبره "رواية رقية القايد"، ثمة امرأة تعاني تهميشا جعل منها "المهاجرة" رغم إنسانيتها التي تفيض. وفي الروايتين ظلم جندري يطرح واقع النساء في مجتمعات وإن بدت مختلفة فهي متماهية.
تقدم فتحية دبش في "ميلانين" رؤية للرواية بوصفها ميدان الأسئلة لا الأجوبة في علاقة الكتابة بالوجود الحر المتمرد على قوانين الرقابة، إذ سعت الكاتبة إلى تجاوز مساحات الرواية، فكان أن قتلت الساردة قارئها رغم أنه من يعطي معنى لسردها ومسرودها.
صحفية تونسية تسافر إلى فرنسا (باريس) في إطار العمل للتحقيق في موضوع المهاجرين العرب في فرنسا. تدور أحداث الرواية بين تونس وفرنسا (الجنوب والشمال)، فتختلط الأزمنة بين حاضر وماض ومستقبل.
تتكشف لأنيسة عزوز علاقات متشابكة بين مفهوم الهوية الثابتة والهوية المتحولة، لتطرح (من خلال التحقيق) قضيتها هي كتونسية سوداء عاشت الإقصاء في تونس.
تتقاطع الرؤى حول مفهوم الهوية والأنا والآخر، فتبرز منطقة ثالثة تتأسس عليها رؤية جديدة لسؤال الهوية، وصولا إلى نهاية مفتوحة للرواية "عودة إلى الطفولة وذكرياتها وخبر يتعلق بنتيجة التحليل الجيني تتلقاه أنيسة من أحمد".
حكايات متناسلة وقضية واحدة
غير أن حكاية أنيسة عزوز تتقاطع بحكاية رقية القايد وسهيل ولورانس لتصبح حكايات متناسلة للقضية ذاتها: "الهوية". ولا إشارة تاريخية دقيقة إلا في يوميات أنيسة عزوز، المؤطرة بـ"شتاء السترات الصفراء" بفرنسا، وهو حراك بدأ في خريف 2018.
فوز "ميلانين" رواية فتحية دبش الأولى (التي سبق أن أصدرت كتبا في: القصة القصيرة والنصوص ثم لاحقا صدر لها كتاب ترجمي) مثّل مفاجأة جميلة للوسط المهتم بالرواية العربية.
هذا الفوز، حمل المفاجأة إلى فتحية دبش نفسها التي قالت (عشية إعلان جوائز كتارا 2020)، إنها كتبت نصا متمردا وكم هو رائع ويبعث على الزهو أن ذائقة لجنة التحكيم اختارته من بين مئات الأعمال الروائية التي قُدِّمت للمسابقة (في فئتها الأهم والأكبر: الروايات العربية المنشورة) من بينها ما هو لروائيين كبار وأسماء مكرّسة في مشهدية الكتابة الروائية.
لغة شاعرية وانسياب سردي رشيق لا تكرار فيه ولا إغراق، ومتتالية لا تملّ، عدا عن قلق بطلة الرواية بإلحاح من "سؤال الهوية والانشغال بالأسئلة الوجودية".