[ تمثال شمعي لمصطفى كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة معروض في متحف شمع مدام توسو في إسطنبول (غيتي) ]
في تمام الساعة التاسعة وخمس دقائق من صباح اليوم الثلاثاء عمّ الصمت أرجاء تركيا كافة، وتوقفت الحركة مدة دقيقة واحدة مع حلول الذكرى الـ82 لوفاة مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك، كما توقفت الحياة في إسطنبول مدة دقيقة واحدة، في حين أحيا المواطنون الذكرى بنزولهم من السيارات في مناطق مختلفة على الجسور والطرقات والمحطات للوقوف دقيقة صمت رافقتها أصوات صافرات الإنذار.
وولد مصطفى كمال أتاتورك في الـ19 من مايو/ أيار 1881، في مدينة سلانيك الواقعة اليوم شرقي اليونان، وتوفي في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني 1938 في إسطنبول، ويقدم هذا التقرير ملامح من سيرته بعيون تركية.
السلطان المتعب
يسعى إلبير أورتايلي (1947) أستاذ التاريخ في جامعة أنقرة وغلطة سراي وجامعات أوروبية وروسية عدة -في الكتاب الذي صدرت ترجمته العربية عن الدار العربية للعلوم ناشرون- إلى رسم صورة بانورامية لتلك المرحلة بأدق تفاصيلها.
ويؤكد المؤرخ التركي أن هذا الكتاب ليس لمناقشة وبحث تفاصيل السيرة الذاتية لأتاتورك، بل لأن ميراث وأرشيف الدولة التركية خلال القرن الـ20 لم تتم المحافظة عليهما على الوجه المطلوب، بل لم تتم المحافظة عليهما نهائيا.
ويحاول أورتايلي في كتاب (الغازي.. مصطفى كمال أتاتورك) العودة إلى الحديث عن تاريخ هذه الشخصية، من خلال ربطها بالتحولات التي عرفتها الدولة العثمانية في القرن الـ19 على مختلف الصعد، وهو قرن كان قد شغل فكر أورتايلي في منتصف الثمانينيات مع إصدار أطروحته "التحديث والحداثة في القرن الـ19".
ويشرح الكاتب أن السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918) كان متعبا جدا بعد العام 1905م، ويضيف "كان محبّوه من الأوساط المحافظة في أوروبا أكثر من محبيه في الداخل".
ويؤكد المؤلف أن جيل ثمانينيات القرن الـ18 كان هو الجيل الذي عمل على إحياء الإمبراطورية العثمانية، وحارب على جبهات عدة من أجلها.
شجرة عائلته
يُعرف مصطفى كمال باسم "أتاتورك"، أي "أبو الترك"، وهو لقب منحه إياه البرلمان التركي سنة 1934. ويشير المؤرخ أورتايلي إلى أن أتاتورك درس في المدرسة العسكرية إلى حين مجيئه إلى الكلية الحربية في إسطنبول، وهناك خاض أُولى تجاربه السياسية، إذ انضم إلى الحراك المناهض لحكم السلطان عبد الحميد الثاني، وأصبح اسمه مصطفى كمال باشا.
ويوضح الكاتب أن أصول مصطفى كمال من (ولاية كارامان)، والده علي رضا مسؤول جمارك تحول إلى تاجر أخشاب وتوفي عندما كان مصطفى لا يزال صبيا.
ويرد في الكتاب أن والدته زبيدة كانت ذات نزعة دينية، ونموذجا للمرأة التركية التي تعيش في الديار الرومية.
وأتقن أتاتورك الفارسية وقليلا من العربية، ويذكر أورتايلي بالإضافة إلى ذلك أنه كان على معرفة باللغة الألمانية والفرنسية اللتين كانتا تُعتمدان لغتين عسكريتين أساسيتين.
ويقول الكاتب إن حياة أتاتورك الفكرية تأسست في مدينة ماناستر، وهي من أهم المدن المقدونية آنذاك. وتزوج أتاتورك مرة واحدة من لطيفة هانم عام 1923، وهي من مدينة إزمير وكانت تتكلم لغات عدة ولها اطلاع على الأفكار الغربية، مما ساعد أتاتورك في الانفتاح على العالم الخارجي.
الشاب المتمرد
ويشير الكتاب إلى أن الإمبراطورية العثمانية نشأت وتطورت في البلقان، ويؤكد المؤرخ أورتايلي أن البلقان التي بقيت تضج بالحكم التركي مدة 5 قرون كانت تشهد صعودا للفكر القومي في بداية القرن الـ20 إلى جانب التوتر السياسي الذي كان سائدا، وفي تلك الفترة تبلور عالم أتاتورك.
ويؤكد أورتايلي أن مصطفى كمال تأثر بالمحيط الجغرافي الذي عاش فيه، مشيرا إلى أنه أحب شعوب البلقان وعرف مشربهم ومأكلهم وعاداتهم، وتأثر بذلك المحيط القومي المتفرد والمتوتر.
وقام حكم أتاتورك على 6 محاور، عُرفت في مجملها بـ"الكمالية"، بيد أن اللافت في كتاب أورتايلي هو اعتماد التعبير المتداول "الغازي" وصفا لأتاتورك، وهو وصف عثماني/إسلامي بامتياز.
ويقول البروفيسور حسام الدين إيناج رئيس قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة "كوتاهيا دوملوبينار" إن "أتاتورك هو أسطورة موحدة للأمة التركية لأسباب عديدة منها استيعاب أهمية القيم التأسيسية للجمهورية التي أكدها أتاتورك على نطاق واسع وعميق من قبل مختلف شرائح المجتمع داخل تركيا"، معتبرا أن "الجمهورية التركية علمانية وديمقراطية وتعددية ومجهزة بالقيم الغربية وفقا لتراث أتاتورك".
إصلاح الإمبراطورية
ويشير الكاتب إلى أن مصطفى كمال أسس علاقة خاصة مع القادة البلغار الذين اصطدم بهم في حرب البلقان. وقد شكلت بلغاريا بالنسبة إلى مصطفى كمال مختبرا تكونت فيه العديد من مشاريعه المستقبلية، حيث عاين عن قرب أمثلة الحداثة الثقافية والسياسية والاجتماعية، وكان ملحقا عسكريا عثمانيا لجميع دول البلقان من مكتبه في صوفيا.
ويرى المستشرق الأميركي وليام بولك (1929-2020) في كتابه (الصليبية والجهاد) أَن مصطفى كمال ومجموعة الضباط برزوا في الاتحاد والترقي في سلانيك، حيث بدأوا يجهزون بنشاط لحركة 1908 ضد السلطان عبد الحميد الثاني. ولم يكن أتاتورك متفقا مع زعماء الجمعية، فقد أرادوا إصلاح الإمبراطورية في حين أراد هو إنشاء نوع آخر من الدولة، ولكن أعضاء الاتحاد والترقي تأثروا جميعا، وتصرفوا بتنسيق مع ضياء غوك ألب (Ziya Gökalp) المنظّر الأيديولوجي للقومية التركية.
سلطنة هزتها الحروب
ويضيف المؤلف "سيصبح أتاتورك الحاكم الفعلي للإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى وداعمها القوي". ويقول إنه "ساهم في الانقلاب ضد السلطان العثماني وحيد الدين محمد (محمد السادس) 1861-1926، والخليفة الصوري عبد المجيد الثاني 1868-1944، وأعلن في أنقرة قيام جمهورية تركية قومية على النمط اﻷوروبي الحديث".
ويؤكد إيناج -في تصريح للجزيرة نت- "تبنّت تركيا نوعا من العلمانية الأنجلو سكسونية بدل العلمانية الفرنسية الراديكالية. كما هو معروف، تنص اللائكية (العلمانية) الفرنسية على سيطرة الدولة على الدين على الرغم من أن الأنجلو سكسونية تميز الشؤون الدينية عن الشؤون السياسية من خلال تعزيز حرية الوعي للأفراد".
أتاتورك العثماني
ويلفت المؤلف التركي النظر إلى أَن مصطفى كمال أتاتورك استُدعي لكي يشترك في ما يُعرف بحرب البلقان الأولى والثانية، وفي شبه جزيرة غاليبولي المطلة على مضيق الدردنيل سنة 1915-1916 سيصنع أتاتورك مجده عندما قهرالغزو الأنجلو فرنسي حيث غيّرت تلك المعركة تاريخ تركيا الحديثة.
ويخلص المؤلف إلى أنه في الـ24 من يوليو/تموز 1923 وقّع مصطفى كمال اتفاقية "لوزان"، وفي خطابه الشهير سنة 1927 سار على منهجين متوازيين، العلمانية المتشددة، والقومية التركية، حيث قرر أتاتورك حل الخلافة-السلطنة وتأسيس الجمهورية، والإعلان رسميا عن علمانية الدولة التركية.
يقول إيناج "في الواقع، كان أتاتورك جنديا عثمانيا، وتلقى تعليمه في المدارس العثمانية، وكان معجبا بالحضارة العثمانية بإخلاص كبير. ومع ذلك، فقد لاحظ ضرورة استبدال القيم الإمبراطورية التقليدية بالقيم الحديثة من أجل ضمان (بقاء الدولة) لأسباب براغماتية".
من الخلافة إلى الجمهورية
يقول المؤرخ أورتايلي "أصبح الكولونيل مصطفى كمال بطلا وطنيا عندما حقق انتصارات متلاحقة وبدأت نواة حكم أتاتورك في أنقرة، حيث أسس حكومة إقليمية عام 1921. ثم أُسقِطت الخلافة نهائيا في العام التالي، وأُعلنت الجمهورية التركية في أكتوبر/تشرين الأول 1923 على أسس ومبادئ علمانية صارمة، وأتاتورك رئيسا لها، وعاصمتها أنقرة. ويرى الكاتب أن الدولة الجديدة في تركيا اليوم هي شعار وتغيير في الاسم فقط، ويؤكد أن "دولتنا مستمرة، والجمهورية هي في الواقع استمرار للدولة العثمانية". ويقول المؤرخ أورتايلي "كانت تلك المرة الأولى في الشرق التي تقوم فيها دولة مسلمة بتغيير نفسها وجيشها وتقنيتها".
ويوضح إيناج أنها فكرة مقبولة على نطاق واسع من قبل المجتمع التركي وأن هناك استمرارية بين الإمبراطورية العثمانية والجمهورية التركية المُنشأة حديثا، على الرغم من حقيقة أن بعض سياسات أتاتورك تفترض انقطاعا بين القيم المعيارية التقليدية والحديثة. وفي واقع الأمر، قضى أتاتورك على الإمبراطورية العثمانية وقطع جميع العلاقات تقريبا مع القيم الإمبراطورية من أجل تسويغ ثورته في البداية. ولاحقا، وبعد قيام المؤسسات والقواعد الجمهورية وترسيخ جذورها داخل المجتمع التركي بعمق، أوجد الانسجام والتوازن بين التقليدي والحديث من أجل تأمين السلم والاستقرار الاجتماعي.
غير أن السؤال المركزي الذي يبقى في هذه الصورة الجديدة التي حاول رسمها أورتايلي عن أتاتورك وفترة حكمه: هل يعكس هذا التوصيف لنسب أتاتورك اجتهادا تاريخيا؟ أم أنه يأتي امتدادا أو لتوليد قناعات مختلفة في رؤية الأوساط التركية الجمهورية لإرث هذا الرجل، أو محاولة للتصالح مع هذا الإرث العثماني بعد 100 عام على نهاية الإمبراطورية العثمانية.