[ الشاعر المغربي سامح درويش (يمين) والروائي التونسي محمد عيسى المؤدب (وسط) والأديب الأردني سعد الدين شاهين (مواقع التواصل) ]
يبدو السؤال عن فكرة التناص في العنونة سؤالا ذا حدّين، ومع ذلك تباينت آراء ووجهات نظر أدباء وكتاب عرب من شعراء وروائيين ونقاد، في إجابة كل منهم عن سؤال: كيف تنظر إلى التناص في العنونة، وهل تتقبل الفكرة أصلا؟
وبينما تغلق الجزيرة نت زاوية "رحلتي مع العنوان" التي كانت دشنتها بعدة تقارير عن رحلة الكتاب العرب مع العنونة، بدا الحديث حول علاقة الكاتب بالناشر وهل يقبل الأول أن يضع الثاني عنوانا لكتابه؟ الإجابة الأكثر تضادا بين القبول المطلق أو الرفض المطلق، مع استدراكات واستثناءات تحدث عنها هذا الكاتب أو ذاك، في سياق نظرته العامة للموضوع.
قاعدة بانورامية
يعتقد الناقد والأكاديمي العراقي محمد صابر عبيد أنه يحصل كثيرا أن تتشابه عناوين قصائد وروايات ومسرحيات وقصص وكتب نقدية أو معرفية أو علمية كثيرة، ولا غضاضة في ذلك حين لا يكون اللاحق قد اطلع فعلا على عنوان السابق، أو ما يدعى هنا بالتناص العنوانيّ، إذ يقع الكاتبان في لحظة معيّنة على العنوان نفسه، وهو يمثّل تجربة النصّ أو الكتاب في خصوصيّة ذاتية، على ما قد يثيره ذلك من بعض اللبس في قضية مرجعيّة الكتاب أحيانا.
لكن عبيد يقترح أن تكون هناك قاعدة معلومات بانورامية شاملة في كلّ حقل إبداعيّ أو معرفيّ يطّلع الناس فيه على ما يُنجز، ومن ثمّ يمكن تفادي هذا التشابه في التكرار، حيث يكون بوسع اللاحق أن يتصرّف بعنوانه حين يكون أحد قد سبقه إلى هذا العنوان، و"لا مشكلة كبيرة في هذا الأمر"، من وجهة نظره.
من جهته، يشدد الشاعر التونسي عبد الفتاح بن حمودة على أن العنوان ملكيّة لواضعه، مع أن عناوين كثيرة تعتمد التناصّ، "ولكن لا أحبّذ هذا مطلقا".
مُعارضة
وعن ذلك، يقول الناشر والمترجم والكاتب السوري المقيم في الولايات المتحدة أحمد م. أحمد، إنه يحب التناص الذكي الذي يخدم النص الجديد، ويكون في الآن نفسه "مُعارضةً شعريةً" للنص الأول، وإذا غابت تلك المعارضة يفقد التناص قيمته.
ويُذكِّر أحمد -في حديثه للجزيرة نت- برواية "ألف ليلة وليلتان" للراحل هاني الراهب، وكتاب "الديوان الغربي للشاعر الشرقي" لعبد الزهرة زكي، وهنا يتساءل: لا أعرف إن كانا يشكلان نوعا من المعارضة لـ"ألف ليلة وليلة، و"الديوان الشرقي للشاعر الغربي" لغوته، فأنا لم أقرأ أيا منهما.
بصمة
ويشير الروائي التونسي محمد عيسى المؤدب إلى أن العنوان هو مثل البصمة، له صلة حميمة بشخصيّة المبدع، فلا ينتهي إلى اختياره إلا بعد جهود تفكير وبحث واستشارات، حتى لا يُكرّر عناوين موجودة وقديمة بمعنى مستهلكة.
ويضيف المؤدب للجزيرة نت: "إذا ما انتهى إلى اختيار عنوان بعينه فإنّه يصيرُ فعلا ملكيّة فكريّة للمؤلّف، يُعرَفُ به ويُخلِّدُ اسمه".
مبررات فنية.. ولكن
وفي السياق نفسه، يعتقد الشاعر والباحث المصري مؤمن سمير أن التناص مع عنوانٍ آخر أمر جائز ومقبول، إذا كانت المبررات الفنية أقوى من التجاهل، لكنه يُحذِّر من أن الفرق بين التناص و"التلاص" حالة من الهَيَمَان الإبداعي يعميك ويأسرك، "فتحسس وعيك ومخزونك السري لتنجو"، كما يقول.
المصابيح الزُرق
غير بعيد، يبدو للشاعر والهايكست المغربي سامح درويش أن التناص في العناوين ممكن ومباح، "لأن الكتب والتجارب والإستراتيجيات النصية أيضا تتفاعل مع بعضها، سواء داخل زمن واحد أو داخل أزمنة مختلفة، بل داخل ثقافة واحدة أو ثقافات متعددة".
وقد يتم هذا التناص بل التكرار للعناوين أحيانا بشكل عفوي وعن عدم معرفة بالعنوان السابق، كما حدث لعدد من الكتاب والشعراء العرب المرموقين، مثل ما حدث في عنوان "المصابيح الزرق" وهو عنوان رواية للأديب المصري محمود تيمور، وهو أيضا عنوان الرواية الأولى للروائي السوري حنا مينة.
ووفقا لسامح درويش: هناك أمثلة كثيرة من هذا النوع، وقد يتم ذلك عن وعي بهدف تفاعل التجارب وإحالة نص أو كتاب على نص أو كتاب سابق.
تماما كالمنتج الصناعي
ويلفت الشاعر الأردني سعد الدين شاهين الانتباه إلى أن التناص في العناوين قد يحدث صدفة، إذ يحاول المؤلف أو الكاتب (دائما) أن يتفرد في عناوين كتبه وقصائده وأبحاثه، لكنه أحيانا يقع في بؤرة التناص مرغما دون أن يدري، سواء في عنونة قصيدة أو ديوان.
لكن شاهين يعتقد إجمالا أن العنوان بمجرد أن يصدر فإنه يصبح ملكية فكرية لصاحبه، ولا يجوز التعدي عليه حرفيا "تماما كالمنتج الصناعي".
وختم شاهين حديثه للجزيرة نت، مستدركا بالقول: إنما يمكن التغيير قليلا لمن يريد التناص لتظل سمة خاصة للكاتب، وبما أن العنوان -كما يقال- عتبة النص، فلا يجوز اختلاط العتبات لأن في ذلك إرباكا للقارئ وللناقد وللموثق.
مقترحات
وبصدد الإجابة عن سؤال الجزيرة نت: هل تقبل أن يضع الناشر عنوانا لكتابك؟ ينبّه الناقد والأكاديمي العراقي محمد صابر عبيد إلى أنه لا يقبل أن يضع الناشر عنوانا لكتابه، لكنه استدرك بقوله: قد يحصل أحيانا في حالة بعض الناشرين المثقفين الواعين الذين أثق بخبراتهم، أن يقترحوا عليّ تعديلا ما في العنوان، "وحين أرى أنّ هذا التعديل في صالح الكتاب منهجيا وقرائيا يمكن أن أقبل ذلك".
وينبّه عبيد في السياق نفسه إلى أن خبرة بعض الناشرين أو مستشاريهم في هذا المجال لها أهميّة تتعلّق بجوهر الكتاب أو حتى بمساحة تسويقه وترويجه. وختم حديثه للجزيرة نت قائلا: "لست متعصّبا كثيرا في هذا المجال حين أرى الفائدة واضحة في مقترح ما يتعلّق بتعديل عنوان كتاب لي".
رقابة صارمة
أما الروائي التونسي محمد عيسى المؤدب، فيؤكد أنه لم يسبق أن ناقشه ناشر في عنوان من عناوين كتبه، وقال للجزيرة نت إنه في الحقيقة يمارس رقابة على نفسه بشكل صارم قبل أن يُمارسها النّاشر إن كان العنوان بلا قيمة جماليّة وإيحائيّة.
ويذهب المؤدب إلى القول إن العنوان خطِرٌ بمعنى مهمّ، فقد يكونُ سببا في نجاح الكتاب أو في فشله، ولنا الكثير من التّجارب في هذا المعنى.
وأردف: في ما يُنشر حديثا لا تكفي الأسماء الكبيرة لكي يحظى الكتاب بثقة القارئ واهتمامه. العنوان لا بدّ أن يُشاكس القارئ الصّعب، أن يرجّه ويلفت انتباهه في دوّامة ما ينشر ورقيّا وإلكترونيّا، وفي فوضى وسائل الاتّصال والتّواصل الحديثة.
التباس عقيدي
في السياق نفسه، يشير الشاعر والباحث المصري مؤمن سمير إلى أن الناشر يريد بيع الكتاب، وبالطبع فهو يتقاطع مع رغبة المؤلف في نشر الكتاب ووصوله للقارئ.
ورغم هذه العلاقة المتشابكة، فإنه قد تحدث وقفة تُجذِّر الاختلاف بين الغاية المعنوية للمؤلف والمادية للناشر، وفقا للشاعر المصري.
وهي لحظات تباين الآراء أثناء مراحل تنفيذ هذا المنتَج، ومن أهم لحظات الاختلاف تلك: الاختلاف حول العنوان، "والحقيقة أن هناك كتبا جيدة بالفعل قُبرت بسبب عناوينها، ولأن فجاجة العنوان قد تسهل الأمر على قارئ محاصر بملايين العناوين من حوله، فيغادر الكتاب ببساطة وبلا ندم".
لكنَّ الأزمة الدائمة أن رؤية المؤلف للعنوان تنبع من نزيف حروفه هو ومعاناته التي قد تكون ممتدة لفترات زمنية طويلة، "لهذا يرفض بمبدأية، والناشر بالتالي قد يصر ألا يدخل في لعبة خاسرة فيصل الأمر لتلك النقطة المسدودة"، بحسب مؤمن سمير.
ويختم سمير بالقول إنه لم يحدث أن تدخل أحد من الناشرين في عناوين كتبه التي نشرت في مؤسسات رسمية أو دور نشر خاصة، "لكني قُمعت في عناوين بعض القصائد وذلك خوفا من الالتباس العقيدي، وهو أمر لا مناص من التسليم بأنه معتبر وملموس في مجتمعات مغلقة حتى إن تزيت بزي الحداثة".
إلا إذا كان شاعرا
من جهته، يتقاطع الشاعر التونسي عبد الفتاح بن حمودة مع آراء سابقيه، فهو يشدد على عدم قبوله تدخل الناشر في عنونة كتبه: "لا أقبل أن يضع الناشر عنوانا لكتابي. لا أقبل ذلك مطلقا".
ومع ذلك، يستدرك بن حمودة: "إلاّ إذا كان الناشر شاعرا حقيقيا. ولكن لم يحدث الأمر معي، فالناشرون ليس لديهم وقت للبحث عن عناوين أصلا، فما يهمّهم الربح والجوائز".