ليس غريبا أن تزدهر الموسيقى مجددا في السودان، وهي التي كانت دائما حاضرة بقوة في المشهد الثقافي والسياسي، وقدمت فكرة عن هذا البلد الأفريقي للعالم.
وفي منتصف القرن الماضي، كانت الموسيقى السودانية من بين الألوان الموسيقية الأكثر حيوية وتنوعا وتأثيرا في العالم. وبعد استقلال السودان عام 1955 اندمجت التقاليد القديمة مع التطلعات السياسية الجديدة، مما أفسح المجال لتعيش البلاد عصرا ذهبيا.
قال موقع "ميدل إيست آي" (Middle East Eye) البريطاني إن الألحان السودانية وأشهر الفنانين كانوا موضع تقدير واحترام في معظم أنحاء القارة، وكان هذا هو الحال على وجه الخصوص في ما يسمى بالحزام الثقافي السوداني، وهي منطقة تمتد على طول الطريق من جيبوتي في القرن الأفريقي إلى موريتانيا في الشمال الغربي.
لكن هذا المجد لم يدم طويلا، ففي عام 1983 في عهد الرئيس جعفر النميري، أصيب المشهد الموسيقي في البلاد بنكسته الأولى، وبعد وصول عمر البشير إلى السلطة عام 1989، تعرضت أغاني الستينيات والسبعينيات لعملية طمس وتغييب ممنهجة حيث أضحت الموسيقى أداة دعائية، وتعرّض العديد من الموسيقيين للمضايقة والممارسات القمعية.
وخلال السنوات الأخيرة، ظهرت بعض المبادرات لإحياء التراث الموسيقي السوداني، وخاصة في أعقاب الثورة التي أطاحت البشير في أبريل/نيسان 2019، من بينها مشروع "أصوات من السودان" الذي أُطلق عام 2018 بغية أرشفة الإرث الموسيقي في السودان وحفظه من الضياع.
يقول حاتم العجيل مؤسس المشروع "بوجه عام، لم يتم توثيق الموسيقى السودانية جيدا، وأرشفة الموسيقى ليست أمرا حيويا للتراث الموسيقي السوداني فحسب، بل إنها تعطينا فكرة أفضل عن حياة الناس في السودان وطريقة تفكيرهم في الماضي، وتتيح لنا التعرف على القدرات الموسيقية للشعب السوداني".
ويتضمن أرشيف العجيل الأغاني الخمس التالية التي تميز العصر الذهبي للسودان في الـ30 عاما التي أعقبت الاستقلال.
"حبيبي اكتب لي" إبراهيم الكاشف
ولد إبراهيم الكاشف -الملقب بالأب الشرعي لفن الغناء الحديث- في السودان في بداية القرن الـ20 في مدينة ودمدني عاصمة ولاية الجزيرة وسط السودان. وبرز الكاشف في أعقاب ما يُعرف بموسيقى الحقيبة، وهي أسلوب تقليدي تطور في السودان خلال العشرينيات والثلاثينيات، وساعد في إرساء أسس الموسيقى السودانية الحديثة.
وكلمات أغنية "حبيبي اكتب لي" -إحدى أشهر أغاني الكاشف- مأخوذة من قصيدة كتبها ابن بلده عابد عبد الرحمن، وذلك وفقا لمشروع "أصوات من السودان" الذي ترجم كلمات الأغاني.
ويشير العجيل إلى أن الموسيقى السودانية قبل بروز الكاشف كانت تعتمد على عدد قليل من الآلات الموسيقية، وكان له الفضل في إدخال آلات جديدة، على غرار الكمان الذي اضطلع بدور مهم في تطوير الأوركسترا السودانية. وقد ساهمت هذه الأغنية وأغان عدة أخرى، في أن يصبح الكاشف واحدا من أفضل المطربين السودانيين في الفترة التي سبقت الاستقلال.
"يا وطني" سيد خليفة
ولد سيد خليفة عام 1928 بالقرب من الخرطوم، وهو أحد أشهر المطربين والملحنين في العصر الذهبي للموسيقى السودانية، وأصبح من أوائل المطربين السودانيين الذين تلقوا تعليما موسيقيا أكاديميا، بعد أن حصل على منحة للدراسة في معهد الموسيقى العربية الشهير في القاهرة عام 1947.
استخدم خليفة العربية الفصحى واللهجة السودانية في أغانيه، وبفضل الإعلام المصري تردد صدى صوته القوي في جميع أنحاء العالم العربي.
ومن أشهر أعماله أغنية "يا وطني" التي تعد واحدة من أكثر الأغاني الوطنية شعبية في السودان، وهي إحدى المقطوعات الموسيقية التي ألّفها إبان استقلال السودان وصنعت شهرته.
تمجّد هذه الأغنية الوطن، ويعلن خليفة من خلالها إخلاصه للسودان مهما كان بعيدا "في وجودي أريدك، وغيابي".
وعلى الرغم من طبيعتها الوطنية، فقد حظرت هذه الأغنية بمجرد تولي البشير السلطة في السودان، إلا أن خليفة أفلت من السجن بسبب تقدمه في السن وشهرته.
"طفل العالم الثالث" مصطفى سيد أحمد
ولد مصطفى سيد أحمد في ولاية الجزيرة وسط السودان، وهو أحد أشهر المطربين والملحنين السودانيين. ومثل غيره من فناني عصره، كان موسيقيا ملتزما وسياسيا نشطا، وخصص الكثير من أغانيه لمعالجة قضايا بلده مثل العدالة الاجتماعية، والمساواة في الحقوق، والنضال ضد الدكتاتورية العسكرية.
غادر أحمد -الذي توفي عن عمر يناهز 43 عاما- السودان عام 1989 لتلقي العلاج الطبي في روسيا، لكنه لم يعد إلى بلده أبدا، بل انتقل إلى مصر، ثم استقر في قطر حيث أمضى أيامه الأخيرة وقام بتأليف عدد من الأغاني التي تتحدث عن آلام الغربة، كما جسدت أغانيه انشغاله بقضايا العدالة الاجتماعية.
وتتحدث كلمات الأغنية عن انعدام الفرص لأطفال العالم الثالث والظروف المعيشية السيئة.
"اللي بيسأل ما بتوه" فرقة البلابل
تعتبر فرقة البلابل من الفرق الموسيقية الأكثر شعبية في البلاد، حيث تتألف من 3 شقيقات سودانيات من أصل نوبي، آمال وهادية وحياة طلسم. ولدت الشقيقات في أم درمان، ومنها بدأت رحلتهن عام 1971، عندما طلب منهن الملحن وعازف العود بشير عباس الانضمام إلى فرقة فلكلورية.
ويعزى النجاح الكبير الذي حققته الفرقة إلى الأصوات الرنانة والأداء المميز والفساتين الجميلة والأغاني الرائعة التي قدمها الثلاثي، مع حرصهن على عدم طرح القضايا السياسية في كلمات أغانيهن.
أصبحت أمل وهادية وحياة أيقونات للمرأة السودانية، إذ حققن انتشارا واسعا رغم الطبيعة المحافظة للمجتمع السوداني.
وتعد أغنية "اللي بيسأل ما بتوه" التي ألفها عباس أول أغاني الفرقة، وعنوانها مستوحى من مقولة عربية، وتروي كلماتها الرومانسية قصة انتظار الحبيب.
"سلم مفاتيح البلد" محمد وردي
ينحدر محمد وردي من مدينة وادي حلفا النوبية التي تقع شمال السودان بالقرب من الحدود مع مصر، ويُعد وردي من بين أكثر المطربين والشعراء والناشطين تأثيرا خلال العصر الذهبي للبلاد.
في الخمسينيات من القرن الماضي استقر وردي في الخرطوم، المدينة التي صنعت شهرته بعد أن بدأ فيها مشواره الفني، وأصبح المغني النوبي أيضا أحد أشهر الموسيقيين السودانيين في الخارج حيث كان يتمتع بشعبية كبيرة.
ترتبط مسيرة وردي الفنية ارتباطا وثيقا بنشاطه السياسي، ولطالما تعرض للاعتقال والسجن، وكانت أغانيه في بعض الأحيان تخضع للحظر والتهميش.
ويبدو أن هذه الأغنية موجهة إلى البشير نفسه، إذ تنتقد كلماتها النظام بشكل واضح "سلّم عباياتنا وملافحنا/مصاحفنا ومسابحنا/تراث أجدادنا/عقول أولادنا/أحلامنا العشناها"، كما تشير الكلمات إلى "الوطن العزيز الجاع"، و"شعب سقاك لبنه وسقيته من الهوان والجوع"، وتتساءل الأغنية "حتهرب وين وإنت إيدينك الاتنين ملوثة دم؟"، "وليك الشعب متلملم ومتحزم".
كما لو كانت هذه الكلمات تتنبأ بالوضع الحالي الذي تعيشه البلاد، فقد أعيد إحياء الأغنية خلال انتفاضة ديسمبر/كانون الأول 2018 التي أطاحت البشير، مما دفع الفنانة السودانية زوزيتا لإنتاج نسخة شعبية للأغنية بلمسة حديثة.
وخلال الاحتجاجات التي اندلعت في السودان قبل سنتين، أحيا الفنانون العديد من أغاني العصر الذهبي.