[ المخرج بول أندرسون كرس أعماله لكشف الاستبداد والسخرية منه (مواقع التواصل) ]
"سوف تسيل الدماء (There Will Be Blood)، هو صناعة السينما في أروع أشكالها، إنه قصيدة بول توماس أندرسون الملحمية في الوحشية والهوس. كأنه تأمل حقيقي في أميركا، وغوص في العمق المظلم لقلب الرأسمالية المهيمنة، عبر أداءات ستظل علامة في تاريخ السينما لأجيال قادمة".
ما سبق جاء في بيان لجنة "معهد الفيلم الأميركي"، التي اعتبرت فيلم "سوف تسيل الدماء" الأفضل عام 2007، وهي واحدة من شهادات عديدة في عبقرية هذا المخرج والمؤلف والمنتج الأميركي المولود في كاليفورنيا عام 1970، والذي علّم نفسه صناعة اﻷفلام وهو في سن 12 عاما، من خلال المشاهدات والقراءات السينمائية. وفي سن 26 عاما، قدم فيلما مذهلا احتل المركز الثالث في قائمة بي بي سي لأفضل أفلام القرن 21، وحصد 4 جوائز أوسكار.
ولأن الحب كان دافعه (أعتقد أنني أفعل ما أحبه)، والحرية كانت حياته (غادر مدرسة السينما، لمجرد أنه أحس بأن قيودا ما قد تهدد إبداعه الحر)؛ فقد جعل أندرسون الحب والحرية خلاص شخصياته، حيث يهزمون بهما الخوف والشك والفقدان، وهو ما سنرصده في هذه الباقة من أفلامه.
لابد للحب من معجزة
الحب في أفلام أندرسون أشبه بمعجزة تحتاج من الجميع إلى نسف أكاذيبهم وتخطيها، وتقبل ذواتهم كما هي، بالضبط كما تقبل رينولدز وودكوك ذاته في النهاية، في فيلم "الخيط الوهمي" (Phantom Thread) عام 2017، وقطع هذا الخيط الذي يربطه بحياة أرستقراطية متزمتة لا روح فيها ولا سعادة ولا حب يمنح "القلب الحامض فرصة للتنفس".
ولا يعبأ أندرسون بالشهرة والثراء، بل ربما يراهما سببا لتبديد فرص السعادة الحقيقية التي تحتاج إلى الاقتراب من الآخرين واحترام اختياراتهم، التي قد تختلف مع ما نريد أن نختاره لهم، ولذلك نراه يقدم مزيجا من الفلسفة والأناقة والغموض، وهو يتنقل بسلاسة من الرومانسية إلى الغموض والإثارة.
فمن خلال "ألما" التي كانت هشة ومستسلمة لمصمم أزياء الطبقة الراقية المهووس بروتينه اليومي المقدس، إذا بها تصنع المعجزة وتتحول إلى كتلة من الغموض والرعب، عندما تكتشف أن الرجل الذي تحبه قد يضحي بها في لحظة لو أراد، فتقرر تسميمه بأحد أنواع الفطر الذي يُمرض آكله ويطرحه أرضا من دون أن يقتله. لتذيقه -على طريقتها- شيئا من الخوف والضعف حتى تضعه على حافة الموت، ثم تمد يدها لإنقاذه فلا يجد أكثر منها حنانا؛ فيشتعل احتياجا وحبا، ويبدأ النزول من برجه العاجي ليتجرع سمها المطبوخ بكامل إرادته، حتى يبرأ من كِبره وانغلاقه ويطلبها للزواج.
"العائلة" هي حجر الزاوية
في سينما أندرسون العائلة هي نقطة البداية التي تشكل هوية الشخصية وتحدد مسارها وتدفعها أحيانا إلى تقمص شخصية موازية تتناقض مع حقيقتها، بحثا عن حب بديل قد يعوضها عما حُرمت منه.
ففي فيلم "الليالي الراقصة" (Boogie Nights)، عام 1997، يهرب إدي (مارك والبيرغ) من أمه المزاجية المتسلطة، ليبحث عن أم بديلة في أمبر (جوليان مور) التي تجد فيه هي الأخرى تعويضا عن حرمانها من ابنها.
وفي فيلم "ماجنوليا" (Magnolia)، عام 1999، نجد عائلة محطمة تماما، فالابنة كلوديا (ميلورا والترز) ضحية أب تحرش بها في الصغر، وتركها عصبية ومدمنة مخدرات. وفرانك (توم كروز) الذي يدفعه هجر أبيه له ولأمه بعد إصابتها بالسرطان أن يقدم عرضا تلفزيونيا عن فنون التلاعب بالنساء، كأنه بانتقامه من المرأة يتوحد مع شخصية أبيه، بعد عجزه عن الانتقام منه.
أما في فيلم "ضربة الحب السكير" (Punch drunk love)، عام 2002، فيفشل باري (آدم ساندلر) في علاقاته العاطفية، لنشأته العائلية الخانقة ذات الصبغة النسائية، التي جعلته عصبيا يحطم الأشياء ويبكي كثيرا، حتى يتعرف على لينا (إيملي واتسون) فيصبح العالم أفضل للحظة.
وفي "سوف تسيل دماء" نتابع رحلة دانييل بلاينفيو (دانيال داي لويس)، وهو يشق طريقا مزدوجا من العزلة إلى الأسرة والمجتمع، قبل أن تُعيده قسوته وانتهازيته إلى العزلة مرة أخرى.
وأخيرا في "الخيط الوهمي" عندما تكتشف "ألما" (فيكي كريبس) في شخصية رينولدز (دانيال داي لويس) شبح أمه الحاضر في تصرفاته وتعلقه المرضي بها، وكأن في داخله طفل يرى في "ألما" أما بديلة، لكنه يهرب ويكابر خوفا من فقدها كما فقد أمه.
الحرية في مواجهة الاستبداد
يبدي أندرسون اهتماما خاصا بتعرية الاستبداد والسخرية منه، من خلال تقديمه نماذج متباينة من حيث القوة والعنف والنفوذ والتسلط؛ فرأينا دانيال بلاينفيو في "سوف تسيل الدماء"، وكيف جسد الاستبداد الرأسمالي الانتهازي العنيف، كما جسده أيضا الواعظ الشاب إيلاي صنداي (بول دانو) المتعطش للسلطة والاستبداد في صورة أخرى ذات غطاء ديني، فاصطدم بالمستبد الأكبر بلانيفيو ودفع حياته ثمنا لذلك.
وأيضا لانكستر دود (فيليب سيمور هوفمان) في فيلم "المُعلم" (The Master)، عام 2012، وهو رجل ينزع نحو استبداد من نوع آخر بانفصاله عن الواقع، ورهانة على الكاريزما. كذلك رينولدز وودكوك في "الخيط الوهمي" الشخصية المستبدة رغم قشرة الأناقة التي تغلفها.
ويعود أندرسون ويضع الحرية في مواجهة الاستبداد، حرية الشاب إتش دبليو (راسل هارفارد) عندما يرحل بعيدا تاركا أباه المفترض دانيال بلاينفيو -بعد أن طرده وأنكره- لأنه تجرأ وقال له "أريد أن أذهب إلى المكسيك، أريد أن أبدأ شركتي الخاصة، لقد حان الوقت لإجراء تغيير". وحرية "ألما" وتصميمها على هزيمة الماضي وصنع حياة جديدة، في مواجهة استبداد رينولدز وتكلسه. وحرية فريدي كويل (جواكين فينيكس) الذي يعاني من أزمة نفسية تجعله يرفض التسلط ويهرب بروحه القلقة المعذبة من استبداد "المُعلم" لانكستر دود الذي يريد أن "يقولبه" إلى شيء يتبع مبادئه وأفكاره.