[ صلاة الشهداء المسيحيين الأخيرة، لوحة للمستشرق فنان القرن 19 الفرنسي جان ليون جيروم (ويكي كومنز) ]
في خضم احتجاجات "حياة السود مهمة" التي اندلعت في الولايات المتحدة وتأثرت بها بلدان عديدة، سار الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوم الاثنين 1 يونيو/حزيران الحالي مسافة قصيرة من البيت الأبيض إلى كنيسة سانت جون الأسقفية بواشنطن، ووقف في الخارج بينما كان يرفع الكتاب المقدس عاليا.
وبدا الموقف مثيرا للجدل لعدد من الأسباب؛ إذ تم إطلاق الغاز المدمع على المتظاهرين السلميين لتمهيد طريق الرئيس الأميركي، وبدا أن سلوك ترامب كان استجابة غير متناسقة مع الوضع القائم، بحسب مقال مشترك للأكاديميين المختصين بدراسات المسيحية جيرميا كوجان وكانديدا موس.
ويلقي استخدام ترامب للكتاب المقدس في الساحة السياسية مطلع الشهر الجاري الضوء على تاريخ طويل من استخدام النصوص المقدسة لإضفاء الشرعية على سلطة الدولة، إذ استخدم الكتاب المقدس باستمرار كرمز للسلطة السياسية، وتحيل مثل هذه الممارسات إلى تاريخ طويل يعود إلى الإمبراطورية الرومانية المتأخرة التي نظر فيها -للمفارقة- إلى الكتاب المقدس كرمز للمقاومة ضد السلطة المستبدة.
الكتب المقدسة ماديا ورمزيا
على الرغم من أن المسيحيين كانوا مهتمين بمضمون ومحتوى كتبهم المقدسة منذ البداية، فإن استخدام نسخة مادية من الكتب المقدسة المسيحية كعمل رمزي، بدأ في فترة واجه فيها المسيحيون ضغوطا تشريعية وتهميشا وعنفا؛ ويرى باحثون أن الأدلة التاريخية تشير إلى أن اهتمام المسيحيين بنسخ كتبهم المقدسة (الملموسة) والدفاع عنها، كان ردا على الأعمال العدوانية للأباطرة الرومان الذين اضطهدوا المسيحيين قبل تحول دين الإمبراطورية.
ففي عام 249 للميلاد -في ضوء التحديات التي تواجه شرعيته- أصدر الإمبراطور ترايانوس ديكيوس مرسوما يقضي بأن كل فرد في الإمبراطورية يجب أن يقدم تضحية للآلهة الرومانية كنوع من إثبات الولاء للدولة، وجرى تزويد كل من قدم تضحية بشهادة مكتوبة موقعة من قاضٍ روماني كإثبات للمشاركة ودليل ملموس على الولاء.
وتثبت نسخ محفوظة من هذه الشهادات -كما يشير مؤرخ التاريخ الروماني جيمس رايفز- إلى أن المرسوم لم يستهدف على وجه التحديد المسيحيين، ومع ذلك فقد أثر عليهم بطرق فريدة، وقُتل العديد منهم في ما عرف باسم عصر اضطهاد ديكيوس.
وفي هذه الفترة، وكنوع من رد الفعل على الأوامر الرومانية بأن يحمل الناس شهادات الولاء للدولة، بدأ المسيحيون رفع كتبهم المقدسة كمظهر مادي للمعتقد الذي يؤمنون به. وتماما كما كان يُتوقع من الأفراد الذين ضحوا لإثبات الولاء للإمبراطور أن يحملوا شهاداتهم، فقد حمل المسيحيون الأناجيل رمزا للولاء لإله غير آلهة الرومان، وأصبحت الأناجيل تمثل الهوية المسيحية.
رمز لمقاومة السلطة
اعتبر العديد من المسيحيين أن كتبهم المقدسة ذات قوة خاصة تعكس الوجود والقوة الإلهية. وبحلول أوائل القرن الرابع، كانت كتب الإنجيل أو قطع مطوية تحمل نصوصا منه على ورق البردي أو الرق، تستخدم تمائم لدرء الشر أو استجلاب الشفاء، كما تظهر العديد من الأدلة الأثرية وخاصة في مصر القديمة، وقبل أن يرتدي المسيحيون الصلبان حول أعناقهم، كانوا يرتدون النصوص المقدسة، بحسب مقال جيرميا كوجان وكانديدا لموقع كونفيرزيشن.
وفي عام 303 للميلاد، في الذكرى العشرين لحكمه، أصدر الإمبراطور ديوكلتيانوس -الذي بدأ سنوات حكمه بتسامح ديني قبل أن يغير سياسته تماما- "مرسومه الأول" ضد المسيحيين. ومن بين أمور أخرى، تطلّب المرسوم تدمير الكتب المسيحية. ومع ذلك، تحدى عدد من المسيحيين في جميع أنحاء الإمبراطورية الأمر الإمبراطوري، مفضلين الموت على تسليم كتبهم.
وهكذا، أصبح الكتاب الديني المسيحي رمزا لمقاومة السلطة الإمبراطورية. وفي إحدى الروايات، تحدت مجموعة من المسيحيين من بلدة أبيتينا الصغيرة في شمال أفريقيا (تقع في تونس الحالية) المرسوم الإمبراطوري، وكان هذا الرفض لتسليم نسخ الكتاب المقدس بمثابة تأكيد من مسيحيي المدينة على الولاء للإله وليس لروما.
القانون والنص الديني
وبتسمية كتب الإنجيل بـ"القانون"، قصد مسيحيو القرن الرابع الميلادي الإشارة لولائهم الحقيقي، وقصدوا أنهم يتبعون قانون المسيح لا أوامر القيصر، وهكذا جرى تمثيل التنازع بين القانون الإلهي والمرسوم الإمبراطوري بالكتب المادية.
وللحفاظ على النسخ المادية من الكتاب المقدس، كان ينظر لتسليم الكتب المقدسة للموظفين التابعين لروما لتدميرها بمثابة تخلٍّ عن المسيحية؛ إذ نظر إليها كرمز مادي للسلطة الإلهية وكرد على القمع السياسي وعنف السلطة. وفي شمال أفريقيا على وجه الخصوص، رفض بعض المسيحيين تسليم الكتب للتدمير ورفضوا اعتبار من فعل ذلك قادة دينيين لهم.
وبينما تشكلت رمزية الكتاب المقدس من هذا التاريخ كرمز للمقاومة، يجري الاحتفاظ بالأناجيل في الزمن الحديث لتدعيم السلطة القانونية وأداء اليمين الدستورية والاحتفالات العامة، وتبدو المفارقة هائلة بين رمزية الكتاب المقدس كشكل من أشكال المقاومة السياسية، خاصة بالنسبة لتاريخ ونمط المقاومة الذي طوره مسيحيو شمال أفريقيا المحرومون والضعفاء، قبل أن يتحول الآن سلاحا ضد السود من قبل أقوى رجل في العالم، كما يقول الكاتبان.