[ جامعة بولونيا الإيطالية التي تأسست عام 1088 (ويكي كومنز) ]
كانت النخبة الأوروبية في القرن الـ 14 لا تزال تخضع لسلطة الكنيسة ولم يكن بإمكانها أن تتحرك خارج منظومتها المعرفية، غير أن حدَثين مهمين أسهما في تحررها من السلطة الكنسية، وهما صدمة وباء الطاعون في القرن الـ 14، وسقوط القسطنطينية في يد العثمانيين منتصف القرن الـ 15.
وفي كتابه "نشوء النخبة الأوروبية 1400- 1920" الصادر عن دار الثقافة للنشر والتوزيع، يرصد الكاتب والمفكر اللبناني وليد نويهض تلك اللحظة التي بدأت في القرن 15، ونمت تصاعديا بعد تغيير خطوط التجارة القديمة (طريق الحرير) وعبور السفن المحيطات.
يتتبع نويهض مسارات النخبة الأوروبية من خلال ما سمّاه الكتاب "تعانق العمران مع المعرفة"، ما أدى إلى تشقق السلطة الكنسية في القرن الـ 16 وظهور حالات من التمرد.
دور النخبة بالتغيير
وفي مقدمة الكتاب عرّف المؤلف النخبة بأنها شريحة تتشكّل من روافد متخالفة في تكوينها الثقافي وأصولها الاجتماعية، فهي عادة أقلّية تنتقى من مجموعات أهليّة (طوائف، ومذاهب، وطبقات، وأعراق، وأديان)، فالنخبة ليست طبقة ولا كتلة حزبيّة وإنّما هيئة عليا غير منسجمة في الوعي والتفكير تقوم بدور الموجّه أو المؤثّر على الرأي العام.
يقول المؤلف للجزيرة نت إن النخبة لا تعني المثقف أو المفكر أو الفيلسوف فقط وإنما تشمل شريحة واسعة من الأطباء والمهندسين والمخترعين والمكتشفين والبيروقراطيين وتلك الطبقة من الموظفين في أجهزة الدولة التي باتت قوة منافسة لأجهزة الكنيسة في فترة صعودها وشريحتها التقليدية.
ويرى نويهض أنه منذ النصف الثاني من القرن الـ 15 شهدت القارة نقطة تحوّل استثنائية في وعي النخبة الأوروبية، إذ تولدت في هذه الحقبة الانتقالية مجموعة عقول سيكون لها شأن في مطلع القرن الـ 16.
وفي هذه المرحلة ولد ليوناردو دافنشي في عام 1452، ونيكولو ماكيافيلي في عام 1469، ونيكولاس كوبرنيكس في عام 1473، ولويس فيغيس في عام 1492. ويؤكد المؤلف أنّ شريحة من هذه النخبة عملت على تحديث آلات اكتشاف النجوم في عالم الفلك لتسهيل مهمات السفن والملاحة البحرية.
في المقابل، يرى الباحث السوري المحاضر في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في بيروت، حمدان العكلة في تصريح للجزيرة نت أنّ مفهوم النخبة تعني المفكر المتفوق في مجاله، لذلك فإنّ هذا المفهوم ينحصر بالفلاسفة والمفكرين الذين أسّسوا مفهوم الحداثة، وقادوا القارة الأوروبية إلى عصر النهضة بشكل متكامل.
ثنائية النخبة والكنيسة
يرى نويهض أن الكنيسة الكاثوليكية وحّدت أوروبا حتى نهاية القرن الـ 15، إلى أن جاءت الحركة البروتستانتية لتحدث ثورة أيديولوجية خالفت كل ما سبق، ما أعطت فرصة للنخبة لتقديم قراءة عقلانية تتجاوز رؤية الكنيسة، فكانت الثورة من الكنيسة وضدّها في آنٍ.
ويقول المؤلف إن الكنيسة كانت عقبة كأداء لكونها تشكل ذاك المرجع لكل الأسئلة المطروحة عند عامة الناس، وكان لا بد من خوض مواجهات تكسر تلك المقدسات وجاءت الاختراعات والاكتشافات والموسوعات لتساعد النخبة الموازية في تقديم أجوبة بديلة أخذت تفرض حضورها عند شريحة بدأت تتزايد نسبتها مع الأيام، لذلك نجحت في تأكيد دورها القيادي في صنع الوعي المعاصر.
الاحتكاك الثقافي
ويشدد المؤلف على أنّ القراءات بشأن دور الحضارة الإسلامية العربية في بعث النهضة الأوروبية، تراوحت بين متجاهل يعتمد نهج الإقصاء الكامل، وقائل بتأثير محدود وبسيط، وآخر معترف بوجود صلة بين نهضة أوروبا ودور الإسلام في إطار حضارات البحر المتوسط.
ويشير نويهض إلى استفادة الغالب الأوروبي آنذاك من المسلم المغلوب في الأندلس، وبناء تقدمه المدني الحديث على مجموعة قواعد متوارثة في بداية انطلاقته المعاصرة. بعدها أخذ الغالب ينفك عن تقاليد المغلوب ليعيد تأسيس منظومته المستقلة بعد عقود متواصلة من التطور التراكمي المستقل.
ويذكر المؤلف أهم الأسماء التي عملت في حقل الترجمة من العربية إلى الأوروبية مثل الطبيب قسطنطين الأفريقي (المولود في قرطاج التونسية بالقرن 11) الذي ترجم كتب الطب والفلسفة بسبب إجادته اللغات العربية والعبرية واليونانية والإثيوبية، واهتم قسطنطين بإعادة ترجمة ما توافر من كتب حنين بن إسحق، وعلي بن عباس المجوسي، وإسحاق الإسرائيلي، وابن الجزار.
صناعة التاريخ
يؤكد نويهض أنّ الترجمة والنقل عن العربية تطورا في عهد فريديرك الثاني أحد أباطرة الرومان (1212- 1250) الذي كان يلم بتسع لغات منها العربية، واستعان بالمترجم يعقوب أناطولي لنقل مؤلفات بطليموس وابن رشد. كذلك اعتمد على المترجم الأسكتلندي مايكل سكوت الذي درس في إسبانيا ونقل الكثير من المؤلفات العربية من مكتبة طليطلة (توليدو).
واستعرض نويهض أبرز الأسماء التي أسهمت بنقل العلوم والفلسفة الإسلامية من العربية إلى اللاتينية وترجمتها. وبرز منهم الفيلسوف الإنجليزي أديلار الباثي (1070- 1150) كأحد كبار النقلة وتولى تربية ملك إنجلترا هنري الثاني. وبرز أيضا الفيلسوف الإسباني ريمون لول (1232- 1316) الذي أتقن العربية وأقنع البابا بضرورة إنشاء مدارس باللغات العربية والآرامية والعبرية.
ويبيّن نويهض أن تأثير الحضارة الإسلامية على أوروبا نتيجة ثلاثة أنواع من الاحتكاكات، الثقافي، والسلمي وتمثل آنذاك بطريق الحرير، والعنفي وتحديدا حروب الفرنجة. إلاّ أنّ الاحتكاك الثقافي كان الأهم بسبب الترجمات أو النقل عن الخوارزمي والبيروني وابن الهيثم والغزالي وكذلك الرازي وابن رشد وابن النفيس وكتب الأموال والخراج والفلاحة، كانت تلك الأسماء تعتبر مراجع للنخبة الأوروبية حتى تم تجاوزها وإهمالها لاحقا.
أمّا الباحث السوري حمدان العكلة فله رأيٌ آخر، إذ يعتبر أن الحضارة الإسلامية قد أثرت في نشوء النخبة بسبب بنيتها الدينية والمدعومة بأسس أخلاقية ومبادئ فكرية إضافة إلى ثراء اللغة العربية أيضا.
الطاعون أو الموت الأسود
يقول نويهض إن الطاعون الجارف الذي اجتاح القارة وحوض البحر المتوسّط بين (1348-1393م) أدى إلى تعطيل جزئي للتجارة من خلال طريق الحرير، وأسهم في تراجع الإنتاج وتقويض المعاش وانخفاض عدد السكان وتوسيع رقعة الفقر وانتشار المجاعات والفوضى والخوف من الآخرة (نهاية الإنسان والكون)، والانكفاء إلى الخرافات وطلب المعجزات للخلاص من الهلاك الدنيوي.
ويوضح نويهض أنّ الطاعون كان له دور إيجابي، حين حث النخبة الأوروبية على التفكر والبحث عن علاج لمقاومة المرض.
ويعتبر نويهض أن هذه المرحلة شكلت مفارقة كبيرة إذ دخل العالم الإسلامي في حال من الخمول والاستسلام للمرض، فانعزل وانكفأ وارتد إلى إنتاج الخرافة بينما واجه العالم الأوروبي التحدي بالذهاب نحو تصنيع العقاقير لمحاربة الوباء.
ويضيف نويهض أنّ صدمة الطاعون شكلت خطوة لمصلحة الجانب الأوروبي إذ ستعقبها خطوات باتجاه مزيد من التقدم في دائرتي المعرفة والعمران، فالتحدي شجّع النخبة الأوروبية على بذل الجهود لتطوير الطب والمختبرات واختراع الأدوية لوقف الوباء من الانتشار.
وهذا الجانب العلمي من التطور منع الكنيسة من التدخل بسبب حاجتها إلى اكتشاف طبي يخفف من هلع القارة واندثارها.
ويوضح نويهض أن جائحة الطاعون كانت كارثة على الحضارة الإسلامية في المشرق والمغرب بما في ذلك الريف والمدن والتجارة والزراعة التي أصابها موات وضمور وقحط، وانقراض شريحة من النخبة في فترة زمنية امتدت على مدى نصف قرن، وحصل في أوروبا ما يشبه تلك الأوصاف، إلا أن أوروبا نجحت في السيطرة على جائحة الوباء ومعالجة ارتداداته ما أعطاها فرصة للتقدم على القوة المنافسة في الضفة المقابلة من البحر المتوسط، بحسب حديث المؤلف للجزيرة نت.
حقبة العقلانية
ويرصد المؤلف دور السفينة في النهضة الأوروبية، حيث أشرف هنري الفاتح (1394- 1460) على خطة تنظيم اكتشاف المعابر المائية في المحيط الأطلسي مستفيدا من تطور صناعة السفن في مدن المتوسط التجارية.
ولاحقا -يوضح نويهض- جاء اكتشاف فاسكو دي غاما طريق الهند في عام 1498 بعد تحولات سياسية ومعرفية وجغرافية مهمة، فمن جانب السياسة نجحت إسبانيا في إنهاء الوجود الإسلامي في أوروبا بسقوط إمارة غرناطة في عام 1492. وهو العام الذي نجح فيه كريستوف كولمبوس في اختراق المحيط الأطلسي والوصول إلى أميركا دون أن يعلم أنه حقق أهم إنجاز جغرافي في التاريخ البشري المعاصر.
ويرى نويهض أنّ انحسار دور الكنيسة في المجتمعات الأوروبية وضعف هيبة الإكليروس (النظام الكهنوتي) نسبيا كان البداية لعصر النخبة الأوروبية بامتياز في القرن الـ 17، إذ لمعت فيه أعمال وكتابات بيكون، وغاليليّو، وهوبز، وديكارت، فضلا عن باسكال، وسبينوزا، ونيوتن، ولوك، وليبنتز... ولولا هؤلاء لما كانت أوروبا التي نعرفها الآن، على ما هي عليه.