تناولت الرواية الخيالية "الطاعون القرمزي" -التي صدرت عام 1912 لمؤلفها الأديب الأميركي جاك لندن- حياتنا المعاصرة قبل أكثر من مئة عام، وتشابهت بعض أحداثها مع واقعنا الحالي في زمن جائحة كورونا، وفي الرواية الخيالية كان الناجي الوحيد من العدوى هو الجد بطل الرواية.
وفي أحداث الرواية، ينتشر وباء هائل لا يمكن السيطرة عليه، وبعد ستين عاما يكون قد قضى على معظم سكان الأرض، بينما ينجو الجد جيمس سميث مع قلائل آخرين، ويحكي سميث لأحفاده الشبان -الذين يعملون صيادين بدائيين وجامعي ثمار في عالم غير مزدحم- قصة المرض الذي أطلق عليه "الطاعون القرمزي" أو "الموت الأحمر"، وغيّر حياة البشر تماما وقضى على حضارتهم المتطورة.
وفي أحد مقاطع الرواية يغمغم الجد -الذي يشعر بحنين جارف لعالمه القديم- قائلا "الأنظمة تختفي مثل الرغوة، لقد كان كدح جميع البشر على الكوكب مجرد فقاعات زائلة، استأنس الإنسان بالحيوانات ودجّن بعضها، وأباد الحيوانات المعادية، وطهر الأرض من نباتاتها البرية، ثم عاد طوفان الحياة البدائية مرة أخرى، وغمرت الأعشاب والغابات حقول البشر، واجتاحت الحيوانات المفترسة الجماعات، وبأسلحة ما قبل التاريخ يدافع الناس عن أنفسهم ضد السلب.. فكر بالأمر.. كل ذلك بسبب الموت القرمزي".
قراءة زمن الجائحة
قال الكاتب باولو دي ستيفانو في تقريره الذي نشرته صحيفة "كوريري" الإيطالية، إنه كان يعتقد أن الحجر الصحي يضاعف الوقت المتاح للقراءة. لكنه أدرك أنه قرأ أقل بكثير في مارس/آذار الماضي مقارنة بالأشهر القليلة الأولى من العام. ولأنه مهووس بموضوع الفيروس مثل الكثيرين، وصل إلى رواية قصيرة جميلة ذات صلة كبيرة بالوضع الحالي.
يوصي الكاتب بقراءة هذه الرواية ليس فقط لأنها تتحدث عنا قبل مئة عام، وإنما لأنها قصة مثالية من الناحية الفنية، وتجسّد ما يسمى بالأدب العظيم. إنها قصة بائسة، أو بالأحرى قصة حول ما بعد نهاية العالم، تشبه رواية "الطريق" الشهيرة للأديب والروائي الأميركي كورماك مكارثي التي تحوّلت لفيلم سينمائي.
الطاعون القرمزي
تدور أحداث الرواية في عام 2073 بولاية كاليفورنيا وقد عدنا إلى العصر الحجري، حيث بقي أستاذ جامعي على قيد الحياة ليخبر مجموعة من الأطفال الأميين (أحفاده) كيف نجا من انقراض البشرية بسبب جرثومة قاتلة قبل ستين عاما (عام 2013)، عندما كانت الولايات المتحدة يحكمها مجلس غامض من الأثرياء مكلف بتعيين الرئيس ليكون سيد العالم، الذي "كان رجلا يساوي مليار و800 مليون".
تطرقت الرواية إلى اكتشاف مرض مفاجئ بث الرعب وعدم الإيمان في صفوف الناس، ثم دفعهم إلى العزلة والهروب والشك، حيث كشف جبن الكثيرين وبطولة القلة، وفي الأثناء تتراكم الجثث التي سيتم دفنها أو التخلص منها.
يبقى الجد لوحده في العالم، حسب اعتقاده. وكما يحدث دائما في روايات الوباء، حتى الاشتراكي لندن لا يرى في العدوى وإطلاق العنان للطبيعة عقابا تافها من الإله، وإنما فرصة فريدة للتفكير في حالة الإنسان وفي النمو والسلوكيات والعقليات وأنماط الحياة. يقوم جميع الكتاب الذين يتناولون الطاعون بدعوة القارئ إلى إعادة التفكير في البعد الأخلاقي للوجود الإنساني. يفعلون ذلك لعلمهم أن بعض المواقف تستدعي إعادة قراءة جدية للماضي، وهي تمثل نقطة تحول حاسمة وحلما (ربما ساذجا) لمستقبل مختلف عما نتركه وراءنا، ولما لا فرصة لعدم تكرار أخطاء الماضي.
وأشار الكاتب إلى أن عبرة الجد بطل رواية لندن، مريرة للغاية، وفي الحقيقة محبطة: "سوف يعود البارود. لا شيء يمكن أن يمنعه، والقصة القديمة نفسها سوف تكرر ذاتها"، إذ لا تكون الكارثة كافية لدفع الإنسان إلى إعادة التفكير في سلوكه، حيث سيعود إلى عالم مقسم بين الأباطرة، أو الطبقة الحاكمة، أو العرق الذي يمتلك الأراضي والآلات، وشعب من العبيد.
وتحكي الرواية عن هشاشة الحضارة الحديثة وضعفها في مواجهة الوباء، وتقدّم نقدا اجتماعيا وثقافيا للمجتمع المعاصر، وتروي قصة عالم متوحش تفوح منه رائحة الموت والدمار، وتتعرض لقصة نجاة الجد بين اللصوص والعصابات والجائعين المستعدين للانقضاض على كل ما يتحرك.
تبرز ملاحظة أوتافيو فاتيكا، مترجم الكتاب إلى الإيطالية، "لن نكون كما كنا من قبل"، يمكننا التفكير في كلمات بطل الرواية (الجد) الحكيمة حول البارود كاستعارة للصحة العامة التي ضحينا بها من أجل الصحة الخاصة في الوقت الراهن، والتوازن البيئي الذي فرطنا فيه من أجل نمو الناتج المحلي الإجمالي، بالإضافة إلى ذلك ضحينا بالتناغم الاقتصادي من أجل الرغبة في الاستهلاك، والاستغناء عن التفكير النقدي من أجل العالم الرقمي، وضحينا بالوقت من أجل الإكراه التكنولوجي. هذه العبرة من الحكاية الخيالية، حتى لو بدت أنها كابوس.