[ اليمني طه الجَنَد في ديوان «البيت الهادئ يدعو للقلق»: وحيُ الشاعر وإيحاءُ الشِعر ]
يُكرسُ ديوانُ «البيت الهادئ يدعو للقلق» الرؤية الشعرية المغايرة للشاعر اليمني طه الجَنَد (1962) في علاقته بقصيدة النثر؛ إذ له معها مسار يكاد يخصه وحده بين شعرائها من جيل التسعينيات في اليمن؛ وهو مسار يقدم، من خلاله، قصيدة لا تألف ولا تتآلف مع المقاييس التي دأب عليها البعض في الحكم على هذه القصيدة، لكنها في الوقت نفسه تعمده شاعراً، إذ هي قصيدة تتطاول شعراً، بينما هي تنهمر سرداً.
يُقنعك طه بقصيدته إيحاء؛ وهو هنا يعرّض هذه القصيدة لامتحانٍ عسير؛ فالإيحاء وحده قد لا يقنع البعض، وأحياناً لا يصل للكثير، وقد لا يكشف ما تحوزه القصيدة من جمالٍ، كما في الصورة والجمالية التعبيرية العالية مثلاً؛ كما أن الإيحاء يتطلب قارئاً مستشعراً فحوى البوح الشعري الخطابي، قارئا يُستحضر الصورة التي أخفاها أو أهملها الشاعر على حساب الرؤية والحكمة الحاضرتين:
ها أنا أعود/ بقلبٍ منزوٍ كحيوان جريح/لا أحد يعرف الدروب التي قطعها/ الليالي التي قضاها في الانتظار/كيف طاشت المواعيد/الأحباب كيف رحلوا/لا أحد يرى الألم/ إلا الذي يحب/ وتاه في الطريق.
طه، الذي صدرت له ثلاثة دواوين وهذا رابعها، شاعرٌ صاخبٌ في قصيدته، كما هو في حواراته اليومية مع أصدقائه، إذ يبدي سخطاً من الواقع حد النزق الذي يؤخذ عليه أحياناً؛ فهو لا يشعر برضا عن الكثير، لكنه يبقى قريباً من إنسانه، حتى إن ابتعد عنه أحياناً كنزق، فنغمض عن ذلك أعيننا تقديراً لموقفه الثابت إلى جوار الموجوعين. هذا الصخبُ الحياتي اليومي يتجلى في شعره غضباً تُسنده رؤى وتساؤلات ورسائل، تتشكل على هيئة قصيدة نثر أو قصيدة ومضة أو كليهما؛ وهي قصيدته يتمثلها وتمثله فيناً، أما موضوعياً فيتجلى فيها جزء من الألم:
حاولت أن أوضح/لا أحد يريد أن يستمع/الكل يردد/ أنت مع أو ضد/ أنا مع الجميع/ أنا دائماً مع المهزومين/ مَن يريد أن أصطف معه/ عليه أن يُهزَم أولا.
وقبل كل ذلك لا يُخفي طه قلقه؛ فالقلق فاعلٌ معرفي لا يستغني عنه الشاعر الإنسان في مواجهة الحزن وترجمته أيضاً، بل هو حافزه للشعر، فعقب أن يقول قصيدته تشعر كأنه يتخفف؛ فيأتي الشعر مشعاً… يتحدث عن بعض ملامح علاقته بالقصيدة قائلاً:
كيف لي أن أحدد ملامحها/ فهي تأخذ مساراً/غير مرئي/ تتشكل هناك بمهل/ حين تدب فيها الحياة/ تتعرق وتنكمش/ تصعد من الأعماق/ لتتنفس كحوت/ عندما تتعجل/ وتطلب العون/ تأتي بلا أطراف/ أو تعاني من قصر النظر/ في حالات أخرى/أفر منها إلى الرياضة والمشي/ هكذا أنجو بجلدي/ وتمضي لحال سبيلها/ في الغيب.
ضم هذا الديوان، الصادر حديثاً عن مركز ود في صنعاء، أكثر من خمسين قصيدة، وتوزعت على ثلاث مجموعات وثلاثة عناوين رئيسة: غرفة للمسودات والنوم، البيت الهادئ يدعو للقلق، ساق الحرب. وكل عنوان هو عنوان إحدى قصائد المجموعة، لكن لم يُفهم من الشاعر سبب تقسيمها تحت هذه العناوين، إلا باعتباره تقسيماً زمنياً؛ فالأولى تكاد تكون التي كتبها عقب صدور ديوانه الثالث «واحدٌ في الباب يقول إنه أنا» عام 2008، فيما جاءت نصوص الثانية لتتحدث عن معاناة ما بعد ثورة 11 فبراير/شباط عام 2011 وصولاً إلى الحرب كمحور المجموعة الثالثة.
في المجموعة الأولى اهتم الشاعر بحالاته كمواطن يُعاني الكثير ولا يمنحه الوطن سوى القليل، يتنقل بين الأماكن يتحسس الأوجاع، لينقل لنا صوراً من التراجيديا اليومية:
ها أنا أعود إلى المقهى/ لمواصلة الكلام/ سأتكلم ولن يوقفني أحد/ سأتكلم عن البلاد التي نُهبت/ عن الجيل الذي سد الأفق/ وما يزال/ سأتكلم عن الربيع العربي/ عن المرارات والأحلام.
يتداخل الخاص بالعام عبر ذكريات ووقائع يسردها الشاعر، وهو يتكلم عن سنوات المعلمين عن زمن البعثة السودانية عن الدفعة الأولى عن الأستاذ بشرى، إلخ. هكذا يتدفق، وفي كل دفقة يمنح الصورة نبضة إيحائية يقول فيها كلمته، منتقداً ما يراه من ثقافة بالية تفتك بالمجتمع من حوله، وهو ما يزال يحاول تغيير الوضع، من خلال ما يبذله في أحاديثه مع جلساء المقهى والمقيل ومن يجدهم في الشارع على الأرصفة:
يصرخ أحياناً لينجو بنفسه/ من ابتساماتكم البائسة/ من تظاهركم بالنبل/ أيها المساكين/ أشياء كثيرة تنقصكم/ لا ينقصه سوى المال/ هل هذا ما يزعجكم/ لقد عانى/ هذبه الظلم/ لا يريد أن يكون ثرياً ولماحاً/ فقط يريد أن يكمل حياته/ بعيداً عن جدران الحاجة.
يستمر طه يروي بالشعر حالاته ويعبر عن رؤاه، ويستمر مخاطباً ذاته، كنافذة يطل منها متحدثاً للناس وللعالم: العالم بلا نوافذ يدور/ لا يدري أين هو/ ولا يجرؤ على السؤال/ أيها الليل/ عندما تجف الينابيع/ ينابيع الإيمان والعدل/ تذهب البصيرة/ ويلتبس الأمر.
حمل الجزء الأول من الديوان متفرقات كانت عبارة عن حالات تقاذفت أوقات الشاعر وعلاقته بالواقع من حوله (وطن، أصدقاء، مجتمع، حياة) وفيها لا نشعر بما يعيشه اليمن حالياً؛ لأنه كتبها قبل ذلك، وسنقرأها في مجموعتيه التاليتين، ففي المجموعة الثانية يخاطب الشاعر إشكالات ما عاناه الوطن خلال وبعد أحداث الربيع العربي:
ما جرى هبة جريئة/ ثورة بحاجة إلى ثورات/ إلى أهداف ووعي/ لم يعد هناك ديكتاتور/ لم يعد هناك مبرر للانتظار/ إلى أين يذهب الآن؟/ يحتاج إلى أوهام كثيرة/ تمكنه من التماسك/من الاعتراف لزوجته بأنها كانت على حق.
وهنا يتوقف ليصوغ رسالة إلى الأشقاء في الخليج في علاقتهم بمعاناة بلاده، كأنها كُتبت خلال الحرب الراهنة: أيها الأعزاء/لا نحمل الحقد/ ولا يليق بنا/ نريد فقط أن نعيش/ إلى جواركم بسلام/ نطمئن ونحلم مثل غيرنا من الأمم/ كما نعتقد أنه من الواجب/ الوقوف بجانب شعب قريب/ يتصدى بصدور أبنائه/ لتحالف الطمع والبؤس/ وليس له خيار آخر كما تعلمون/ والله المستعان.
ويمنحُ الشاعر القارئ استراحة مع ومضاته الشعرية سواء ضمن قصائده النثرية أو خارجها: الإنسان ورث الطمع/ من الأسلاف/ وبجهده الخاص/ اكتسب المعرفة والقلق.
في المجموعة الثالثة من الديوان اشتغل الشاعر على الحرب المستعرة في بلاده حالياً، مستهلاً بالإجابة على السؤال: لماذا لا تذهب للحرب؟ أنا في الخطوط الأمامية منذ سنوات/لم أر أحدا لاطلق عليه النار/ لم أجد في المتاريس سوى الفقراء.
وتجلى طه مفعماً بالصفاء والنقاء في علاقته بالوطن كقيمة، وكأن مواجهة الحرب تستدعي استشعار هذه القيمة: مازلت أحبك يا وطني/ يا وطن الرعد/ يا ليل الفلاحين/وفانوس العشاق/ وأغصان القات/مازلت وحيداً ويتيماً يا وطني/ لم أكبر بعد/ أصحابي عبروا/ وأنا حاصرني الحشد.
ولم تغب عنه معاناة أبناء بلاده تحت الحرب، فينقل الصورة عن قرب مشاركاً الشارع حزن المارة باعتباره جزءاً من جوعهم ووجعهم: مازلت أخرج إلى المقهى القريب/أينما نظر الواحد لا يجد سوى أجساد هزيلة/ تتحرك بلا جهة/ وأخرى مكومة في الأرصفة وأبواب المساجد/ لمن يمكننا أن نوجه هذا الكلام/ لم نعد نسمع سوى حنين الطائرات/التي لا ندري إن كانت تسمع أنيننا /طائرات الأشقاء الحديثة/حلت محل الدواعش والقاعدة.
وكم كان جميلاً، وهو يختتم الديوان بومضات شعرية تختزل خصوصية علاقته بالشعر والحكمة؛ فالشعرُ هو إيحاء معرفي مسؤول تجاه الحقيقة، والشاعر بهذا كأنه نبي:
البيتُ يُغري كي نشيخ/ نكون أطفالاً متى شئنا/ نناور أو نتيه/ البيت امرأه/ إذا ضاقت يضيق.